تنظرون؟ يتبع كل أمة ما كانت تعبد. قالوا: يا ربنا! فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم)). [٥٥٧٨]
ــ
من يتنزه عن تأويله خشية الخطأ مع تمسكه بالعروة الوثقى وهي تنزيه الله تعالى عن الاتصاف بما تتحدث به النفوس من أوصاف الخلق، وعلى هذا القول في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ((هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه)) ويجوز أن يعبر عن الإتيان والمجيء عن التجليات الإلهية والتعريفات الربانية، ولا سبيل إلى القول في هذا الحديث وأمثاله إلا من أحد الطريقين: إما التأويل على النسق الذي بينا، وإما السكوت على الوجه الذي ذكرنا.
((مح)): الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه، لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته إلا بالإتيان، فعبر بالإتيان عن الرؤية مجازاً.
وقيل: الإتيان فعل من أفعال الله تعالى سماه الله إتياناً.
وقيل: المراد بالإتيان إتيان بعض ملائكته.
قال القاضي عياض: وهذا الوجه أشبه عندي بالحديث، أو يكون معناه يأتيهم الله في صورة من صور ملائكته التي لا تشبه صفات الإله ليختبرهم، فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة: أنا ربكم، ورأوا عليه من علامة المخلوق ينكرونه ويعلمون أنه ليس ربهم فيستعيذون بالله منه.
أقول: قول من قال: إن الرؤية حقيقية غير أنا لا نكيف ذلك ونحيل كنه معرفتها إلى علم الله تعالى، وتفسير الإتيان بالتجليات الإلهية والتعريفات الربانية، هو القول الحق، لأن هذا الإتيان مسبوق بقوله: هل تضارون في رؤية الشمس؟ وقد أكده بقوله: بالظهيرة صحواً، وزاد في تقريره وتأكيده بقوله: ليس معها سحاب، وكذا قوله: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ... ؟ إلى آخره، فإن ليلة البدر هنا بمنزلة الظهيرة هناك، وأنت قد عرفت أن التأكيد والتقرير إنما يصار إليه لدفع توهم التجوز ورفع الخطأ والسهو، فإذا ذهبنا إلى المجاز في هذا المقام فكيف نأمن مثله في إثبات الرؤية الحقيقية في الجنة؟ ولا يذهب إلى هذا إلا من أنكر الرؤية مطلقا كالمعتزلة وأشباههم.
قوله:((فماذا تنظرون)) أي: قلنا لكم: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فبعضكم اتبع ما عبده فلم لا تتبعونهم؟
وكان من جوابهم: إنا ما تبعناهم ما دمنا في الدنيا عند أفقر أوقات كوننا محتاجين إليهم، فكيف نتبعهم الآن وهم مع ما يعبدون من دون الله حصب جهنم؟.