لم تكن الدعوة الاقليمية أو دعوة التجزئة قاصرة على دعوة واحدة وانما تعددت دعواتها وتنوعت، فكانت هناك (١) الدعوة إلى المصرية (٢) والدعوة إلى المصرية الفرعونية القبطية (٣) والدعوة إلى المصرية النيلية- ومن الناحية الأخرى كانت هناك دعوات الوحدة العربية والجامعة الإسلامية والرابطة الشرقية.
وكان الهدف من اثارة هذه الدعوات جميعها ومناقشتها في الصحف والتركيز على احداها بعد الأخرى .. وقيام دعاة لهذه ولتلك، ومحاضرات وكتب وأحاديث، كان الهدف من ذلك كله خلق جو من البلبلة والتمزيق للفكر .. وتفسيخه حتى يعجز عن السير في تياره الطبيعى وأداء واجبه.
وكان الاستعمار البريطانى في مصر حريصا على التركيز على دعوة القومية الضيقة بأنواعها الموقوف بها ضد الوحدة العربية التي كان معروفا أنها الاتجاه الطبيعى والمجرى الأساسى العميق الذي يؤدى إلى تضامن سائر دول العالم العربي في وحدة سياسية وهو ما يحرص الاستعمار على افساده. كما حرص الغزو الثقافي في مجال التجربة إلى أن يحمل الأقباط لواء الدعوة إلى القومية المصرية ذات اللون الفرعونى المرتبط بالقبطية بينما يحمل المسلمون لواء الدعوة إلى القومية المصرية ذات اللون النيلى أو اللون الإسلامي.
وكان لظهور الأفكار القومية في أوربا أثره في الاتجاه إلى دعوة القومية، غير أن الاستعمار حصر هذه الدعوة في المجال المحلى الضيق، وبذلك ظهرت دعوة "تمصير" الفكر وعزله عن الفكر العرقى تأثرا بالمفاهيم الأوربية، ومحاولة خلق صورة ذات ملامح للقومية المصرية والشخصية المصرية قوامها ميل المصريين إلى التدين وتمسكهم بعادات اجتماعية معينة، وهى صورة لا تزيد عن أنها جزء من صور القومية العربية والشخصية العربية، فقد كانت ملامح الأجزاء العربية كلها متحدة في المشاعر والتقاليد والأخلاق والفكر والتأثر بالأحداث المختلفة نتيجة للركيزة الأساسية من الثقافة العربية والتراث الإسلامي والأديان والتاريخ المشترك.
وجرى في ظل هذه التيارات الدعوة إلى الأدب المحلى الذي يصور الحياة المصرية وحدها، وجرت الدعوة إلى اللغة المحلية والانفصال عن اللغة العربية الأم والعصبية للاقليم وتفضيله ورفعه فوق كل اقليم.
وجرت الدعوة إلى "مصر للمصريين" وكانت تحمل هدف فصل المصريين عن الأمة العربية وعن جيرانها فقد هاجم دعاة القومية الضيقة لأولئك الذين هبوا لمساعدة الليبيين من أهل طرابلس الغرب عند الهجوم الايطالى عليهم وقالوا أن على المصريين ألا يتأثروا بعواطف غير منبعثة من اقليمهم وحده.
وحملت دعوة مصر للمصريين الكراهية للارتباط بالعرب أو المسلمين أو دعوة الخلافة وكانت مثل هذه الدعوة تجرى في سوريا والسودان وفي كل مكان بدأت فيه حركة مقاومة للاستعمار.
ولم يشأ أحد أن يرى الطريق للصحيح بعيدا عن العاطفة الاقليمية العصبية المندفعة بفعل الغزو الثقافي وتحت رداء التجزئة ويفهم أن الوحدة المصرية عمل نافع لالغاء الخلافات الذهبية والحزبية والارتفاع عليها كمقدمة لتكوين حلقة من وحدة أكبر كالوحدة العرقية، اما كان الدعاه يرون أن مصر وحدة مستقلة، منفصلة تقوم على أساس الهرم أو النيل فقط وتحمل الكراهية للعرب ولكل ما هو عرقي وترى أنهم دخلاء غزاة كاليونان والرومان.
وكانت الحركة الفكرية قد رسمت خطة لدعم هذه التجزئة بدعوة القومية المحلية لدراسة الكتابات الهيروغليفية وتاريخ الفراعنة والربط بين العصر الفرعونى والعصر القبطى.
واستهدف هذا العمل القول أن مصر أمة مستقلة لها مقوماتها العقلية والاجتماعية, وأنها ظلت معزولة عمن جاورها، تفصل بينها وبين جيرانها البحار والصحارى وأن الصحراء تحيطها شرقا وغربا وأنها نمت منفردة من أقدم الأزمان كوحدة تاريخية منعزلة لها تراث خاص وتقاليد مستقلة.
وكانت تحاول أن تصور العرب بصورة مزرية، هى صورة اولئك الأعراب الذين يقيمون في الخيام يرعون الأغنام، وهى صورة غير صحيحة اطلاقا فالكيان العربي في حضرة لا تقل من حيث المدنية والحضارة والثقافة عن مصر. وان بغداد ودمشق والمدينة وطرابلس والخرطوم وتونس ومراكش والجزائر لا تقل من حيث الحضارة والثقافة عن القاهرة, وأن لكل قطر حاضرته وباديته.