وانهارت الحوائط العالية للوطنية الضيقة التي كان يحميها دعاة التغريب في العالم العربي وكان، الدكتور محمد حسين هيكل في مقدمة من كشف خطة التغريب قال (السياسة الأسبوعية - ١٤ أكتوبر ١٩٣٢) لما عاد الشبان الذين سافروا إلى أوربا صدمتهم ظاهرتان عجيبتان أثارتا دهشتهم لتناقضها مع أصول الحضارة العربية تناقضا بينا (الأول) هذه الحرب المنظمة التي يقوم بها الاستعمار الأوربى لحرية العقل (ثانيا) انتشار المبشرين الغربيين في كل مكان من المدن الكبيرة والصغيرة بل في القرى يدعون إلى المسيحية.
وبالرغم من هاتين الظاهرتين ظل هؤلاء الشبان يدعون إلى الحضارة الأوربية مستندة إلى أصلها الصحيح: أى حرية البحث ونزاهة العلم، ولكن مرور الزمن فتح عيونهم على حقيقة أخرى لم تكن أقل اثارة لدهشتهم فما يصدر الغرب للشرق من آثار حضارته قد وقف أو كاد عند أسوأ ثمرات هذه الحضارة، وعندما كان يؤتى بلاد الغرب من الربح ما يمده بأسلوب الرخاء والترب، فتجارة الرقيق الأبيض والكحول ومواد الزنية واللهو وجوافات الهذر المسرحى كانت هى أول ما يصدر الناظر لآثار الغرب في الشرق، ولم يقدم الغرب إلى جانب هذا من صالح ثمرات حضارته ما يستر سوآتها هذه بل وقف حائلا دون انتشار العلم الصحيح ثم بدت حقيقة أشد من هذه الحقيقة مرارة وايلاما، تلك أن الغرب الذي تزعم دولة أنه تحرر من قيود التعصب الدينى مازال يذكر الحروب الصليبية التي نشبت خلال قرون بين المسيحية والإسلام، وأن كلمة اللورد اللنبى يوم استولى على القدس وقوله أن الحروب الصليبية قد انتهت كانت تعبر عن معنى يجول بخاطر الدول الأوروبية جميعا" ا. هـ.
وهكذا انكشفت خدعة الغرب لخبرة ربائبه وتلاميذه وخدام دعوته التغريبة عندما انكشفت أكاذيب الاستعمار في دعوته إلى تمدين الشعوب وكذب شعاراته: الحرية والاخاء والمساواة، ظهر أنه كان وراء كل فتنة وثورة ومؤامرة، وأنه حرص القبائل والأجراء وأثار الخلافات القديمة بين المذاهب والأديان وشجع الخلافات الطائفية والعنصرية وخلق الأحزاب لافساح جهة الصراع والتجزئة وادعى أنه يحمى الأقليات وسيطر على الصحافة ووجهها لغاياته وأفسد حركة تحرير المرأة وحولها عن طريقها الحقيقي.
ولكن كل هذه المؤامرة الضخمة التي قصد بها إلى تعزيز "التجزئة" وتأكيد الحدود المصطنعة، فسدت، عندئذ اضطر الاستعمار إلى مجاراة العرب في دعواه إلى القومية العربية والوحدة آملا أن يستغلها وأن يسيطر بها على الأمة العربية وأن يدفع أعوانه وعملائه لقيادة هذه الحركة، وأول ما يهدف اليه أن ينفث من الصدور ايمانها الذي يدفع إلى الحركة ليتحول إلى بخار يذهب في الهواء، وهو ما حدث في نهاية هذه المرحلة وخلال الحرب العالمية الثانية.
-٢ -
الدين
لم يتعرض فرع من فروع الفكر العربي للغزو الثقافي كما تعرض "الدين"، ذلك لأن الدين كان ولا يزال في الوطن العربي وفي الشرق دعامة هامة من دعامات الثقافة ومقوما من مقومات الأمة العربية. وعنصرا حيا ايجابيا غير منفصل من عناصر السياسة والاجتماع والاقتصاد.
ولقد كان الاستعمار يعرف خطر "الدين" وأثره في الحياة العربية ومدى أثره في الايمان بالحرية ومقاومة الغاصب وانماء القوة وحراسة الثغور. ولما كانت هذه العوامل من أخطر الأخطار على بقاء الاستعمار فقد كانت خطته في القضاء على مصدر هذه القوة: وهو الدين واللغة والتاريخ، وكان الدين أهمها.
وقد أعد خطته في مقاومة الدين على نحو دقيق خفى يسرى في معالم الفكر والحياة سريانا بطيئا حاسما في المفاهيم المختلفة. وقد امتدت هذه الخطة فشملت الثقافة والصحافة والتعليم والترجمة والبعثات الأجنبية ومفاهيم الاجتماع وتحرير المرأة، ومن أجل هذا انطلقت دعوات الاستشراق والتبشير وظهرت مجموعات من دعاة التغريب ولما كان دين الغالبية في الوطن العربي هو الإسلام فقد كانت الحملة كلها قد ركزت عليه باعتباره مصدر الثقافة والفكر والتراث المشترك.
ولقد استهدف الغزو الثقافي إلى محاربة الإسلام القضاء على روحه القوية في مجال الحياة والفكر حتى تنطوى قوته وفعاليته في مجال مقاومة الاستعمار.
كان التعصب الدينى واضحا في هذه الحرب، التي صدرت عن حقد بالغ وخصومة عنيفة. ولم تصطنع في أى جانب من جوانبها "المنهج العلمي" الذي ابتدعه الغرب وأقام على أساسه أبحاثه ونتائجه.