اتصل النفوذ الأجنبى والاستعمار الغربي بالغزو الثقافي وكان من نتائجه استيراد عديد من النظريات والمذاهب والآراء: وقد تأثر الفكر الغربي الإسلامي بالثقافة الغربية ومذاهب الفكر الغربي تأثرا بعيد المدى وقد كانت هذه المذاهب تهدف في الحقيقة إلى رسم فلسفة حياة للمجتمع التي تخلص من نزعته الدينية المسيحية بعد أن تحرر من سلطان الكنيسة وسلطان الكهنة وفصل بين الدين والدولة وتوالت شكوكه في الخالق والأنبياء والأديان والكتب المقدسة.
كان هذا كله بين العوامل التي دفعته في الطريق العلمانى لمحاولة رسم فلسفة حياة له تمثلت في نظريات متعددة: كان أقدمها المذهب المادى ونظرية النشوء والارتقاء ومذهب نينشة وروسو ثم النظرية الماركسية والتحليل النفسي والسريالية والنازية والفاشية والبراجماتزم وكان للاستعمار نظرياته التي كان أبرزها نظرية الأجناس (الآرية والسامية) ونظرية تفوق الرجل الأبيض وحقه في حماية الحضارة وتمدين الجنس البشري.
***
[المذهب المادى والنشوء والارتقاء]
أما "المذهب المادى" فقد غمر الفكر الأوروبى وارتبط بالحضارة الحديثة ومكتشفات البخار والكهرباء في القرن الثامن عشر ومؤداه أن الوجود قديم وأن المادة هى مصدر كل كائن, وأنها تدرجت في حلقات متتابعة وفق نواميس ثابتة تبتدا بالجماد وتنتهي بالانسان في أرقى درجاته الفكرية, وأنكرت نظرية المادة ما جاءت به الأديان من وجود عقل مدبر وروح مفكر خلف هذا العالم, وقالت أن هذا القول وهم جهال, واتصل المذهب بنظرية "النشوء والارتقاء" التي جاء بها "تشارلس دارون _ ١٨٤٣" في كتابه "أصل الأنواع" وخلاصته: القول بوحدة المخلوقات الحية جميعا, أى أن الانسان والحيوان والطير والأسماك والحشرات مشتقة من أصل واحد أو بضعة أصول واحتقر "دارون" الانسان وهاجم القول بأنه سيد الخايقة وأن الروح هى ميراث الانسان دون سواه من سائر الخلائق.
وقد نقلت هذه الآراء إلى الفكر العربي فأثارت مساجلات ودراسات ومعارك فكرية بعيدة المدى، وكانت مجلة المقتطف والدكتور شلبى شميل أول من حمل لواء هذه الأفكار حيث نشر مقالات متعددة في المقتطف ١٨٨٤ و ١٨٨٥ ثم جمعها في كتاب فلسفة النشوء والارتقاء وقد حرص الدكتور شلبى شميل أن يبدأ معركة مع القارئ العربي بهذه العبارة " طالع هذا الكتاب بكل تمعن ولا تطالعه الا بعد أن تطلق نفسك من أسر الأغراض لئلا تغم عليك وأنت واقف تطل على العالم من شرفة عقلك تتلمس الحقيقة من وراء ستارها"
وقد رد على هذا المذهب كثيرون في مقدمتهم: جمال الدين الأفغاني في كتابه (الرد على الدهريين) ومحمد عبده, وفريد وجدى في كتابه "على أطلال المذهب المادى" الذي نشره في المقتطف ١٩١٨ ثم حمل لواء الدعوة للمذهب المادي: سلامة موسى وإسماعيل مظهر في الوقت الذي كانت أوربا قد انتقضت هذا المذهب, وشرحته وأشارت إلى الأخطاء التي تتصل به فقد سقطت نظرية ناموس الانتخاب الطبيعى التي نادى بها دارون وتشكك العلماء في ناموس الوراثة وأشارت دائرة المعارف الفرنسية إلى أن العلماء قد اعترضوا على هذه النظرية واتهموها بأنها مختلة من أساسها لأنها أن جميع الصفات النافعة أعنى كل صفات الأنواع الحية قد حدثت بداءتها اتفاقا (أى بالصدفة).