وقال: فناء الصوفى في الله، وفنائى في خلق الله. وقد هز المشاعر بدعوته الحماسية إلى الحرية مما كان له أبعد الأثر في اتقاد هذه الجذوة التي كانت بعيدة المدى في الفكر العربي الإسلامي المعاصر.
"أنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد. وربيتم في حجر الاستبداد وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم. وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين. تسومكم حكوماتكم الظلم والجور وتنزل بكم الخسف والذل. وأنتم صابرون بل راضون. تستنزف قوام- حياتكم- التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهكم- بالعصا والمقرعة والسوط وأنتم صامتون. انظروا أهرام مصر, ومشاهدة سيوه, وحصون دمياط. فهى شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم. هبوا من غفلتكم, اصحوا من سكرتكم. عيشوا كباقى الأمم أحرارا سعداء".
وحق لمحمد عبده أن يصف شعب مصر عند قدوم جمال الدين اليها بأنهم كانوا يبرون شئونهم العامة بل الخاصة ملكا لحماكمهم الأعلى, يتصرف فيها حسب ارادته ويعتقدون أن سعادتهم وشقاءهم، موكلان إلى امانته وعدله, أو خيانته وظلمه. ولا يرى أحد منهم لنفسه رأيا يحق له أن يبديه"، ثم ظهر بوضوح اثر جمال الدين في يقظة الرأى العربي كله وتطلعه إلى حقه في التفكير السياسى عن طريق الدستور والنظام النيابى. وذلك في مناقشات عبد السلام الموبلحى في مجلس شورى النواب وتطور ذلك حتى قال القاضى الهولندى (فأن بملن) احد قضاة المحاكم المختلطة: أن المثقفين المصريين يخطئ من يظن أنهم لا بهتمون الا بمصالحهم الشخصية, ومصالح عائلاتهم، وهم على العكس, يكرهون الحكم التركى والحكم الأوروبى على السواء ويريدون حكومة وطنية (بكل معنى تحمله هذه الكلمة).
وكان هذا مقدمة اتجاه العالم العربي نحو القومية والتحرر من أنظمة الحكم الاستبدادى.
-٥ -
عرابى والحزب الوطنى الأول ١٨٧٩ - ١٨٨٢
تعد حركة أحمد عرابى عاملا من أبرز عوامل التيار السياسى في يقظة الفكر العربي الإسلامي. فقد تأثر عرابى بجمال الدين والاتجاه الدستورى العثمانى. وكان بمثابة
رد فعل واضح للتركية المتغلغلة المسيطرة. ورد اعتبار لما كان وجه إلى المصريين من اتهام بأنهم "فلاحون" وقد تمثلت دعوته في مقاومة (١) الأسرة التركية (٢) التدخل الاجنبى (٣) حكم الفرد الاستبدادى, ويعد عرابى أول سياسى في العالم العربي وقف في وجه الحاكم مستبد مناديا باسم الحرية وتمثل عبارة الخديو في يوم (٩ سبتمبر ١٨٨١) مفهوم الحاكم المستغل كما تمثل عبارة عرابى مفهوم اليقظة الفكرية السياسية. وقد كانت مظاهرة عابدين ترمى إلى مطالبة عرابى بمطالب ثلاثة هى:
١ عزل رياض ٢ تشكيل مجلس النواب ٣ وصول الجيش إلى العدد المعين في الفرمانات السلطانية.
قال الخديو: كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها. وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائى وأجدادى وما أنتم الا عبيد احساننا- فرد عليه عرابى قائلا: لقد خلقنا الله احرارا, ولم يخلقنا تراثا ولا عقارا, فو الله الذي لا اله هو اننا سوف لا نورث بعد اليوم.
وهذا الحديث ولا شك علامة هامة من علامات تطور التيار السياسى في الفكر العربي الإسلامي المعاصر, وهو أول علامات ظهور "القومية المصرية".
فقد كان الطابع التركى هو الغالب على الفكر والحكومة والجيش, فكانت الأسر المتصدرة لشئون البلاد من عائلات تركية ولم يعرف رئيس وزراء الا وهو تركى الأصل. كما كانت استانبول هو قبلة المصطافين. ولم يجد عرابى مصريا صميما يملك شئون يؤبه له وقد تزعم عرابى الحزب الوطنى الذي أعلن عن وجوده في نوفمبر ١٨٧٩ حين وزع اعلانه الذي بلغت كميته عشرين الف نسخة مطبوعة من منشور احتوى على بيان محدد لانقاذ مصر من ويلاتها, وقد عزا البيان ما تقاسبه البلاد إلى الحكم المطلق. وخاو البلاد من برلمان منتخب متمتع بسلطات كاملة. وعدم سيادة القانون وعدم تساوى الناس أمامه, وافتقار البلاد إلى التعليم العام.
وقد ظل عرابى مؤمنا بأهدافه حتى بعد فشل الثورة العرابية التي لم تهزم الا بالخيانة, فقد صور أهدافه في مذكرته التي رفعها إلى اللورد "دوفرين",