وقد تكررت هذه التجربة في كل قطر: في سوريا وتونس والعراق.
وكانت الأحزاب أداة تحويل المعركة الوطنية إلى معركة سياسية، ومنازعات داخلية، فتوزعت بذلك قوى الأمة وتبددت وحدة الشعب، واستدعى ذلك أن يستعين البعض بقوة المستعمر على البعض الآخر واستطاع المحتل أن يوسع الشقة وأن يعين هذا على ذلك، وتعرضت قضية الوطن لأبلغ الخطر واستتبع ذلك الانحدار الاجتماعى من الأهداف الوطنية العليا إلى المصالح الفردية:
وقد قامت هذه الأحزاب على الأشخاص لا على المناهج فلم يكن لها برامج محددة.
وفي مصر كان مصطفى كامل يطالب بالجلاء، بينما حزب الأمة لم يورد في منهاجه الذي أعلن شيئا عن الجلاء أو الاستقلال أو الحرية، وانما أورد هذا البدأ "أن نوجه همنا ونصرف قوانا للحصول على حقنا الطبيعى وهو الاشتراك مع الحكومة في وضع القوانين والشروعات العامة وذلك بالسعى في توسيع اختصاص مجالس المديريات ومجلس شورى القوانين" وهذا مدى ما كان يطلب حزب الأمة.
وفي فلسطين كان لصراع الأحزاب أثره البعيد في سيطرة اليهود وتمكنهم من الانقضاض عليها. وقد استغل الانجليز واليهود الخلاف بين أمين الحسينى وفخرى النشاشيبى وسعت بريطانيا لتعميق هذا الخلاف وتوسيع شقيه.
***
[٦ - الصحافة]
وقد استغل الاستعمار الصحافة، وكانت له في معظم البلاد العربية صحف تعمل لحسابه في صراحة وصحف تعمل له في الخفاء، وفي بعض الأقطار كانت هناك صحف لبريطانيا وصحف لفرنسا، وكان بين هذه الصحف صراع خفي، وكانت الصحف الموالية لفرنسا في الأقطار التي احتلتها بريطانيا تعرض اتجاهات بريطانيا وتصرفاتها وتحمل بذلك لواء الدعوة الوطنية ظاهرا بينما هى تدافع عن مصالح فرنسا.
وفي مصر كانت صحيفة "المقطم" تتحدث صراحة عن دورها في تأييد الاحتلال البريطانى ولها في ذلك فلسفة عجيبة. وقد كشف المقتطف - وهو شقيق المقطم - عن هذا الدور تحت عنوان تشيع المقتطف للانجليز (عدد يوليو ١٩٠٥) "يرءون المقتطف بالتشيع للانجليز. ويقولون أنه لا ينوء الا بالانجليز ولا يعترف بالفضل الا للانجليز ولا يستحسن الا ما هو انجليزى وبهما حملة هذا الغلو في حب الانجليز على استحسان ما يستقبح من غيرهم ويشهدون على الأول باغضائه عن ترجمة حول سيمون الفيلسوف الفرنسي والسيد جمال الدين الأفغاني.
وقال الدكتور صروف: أن أكثر مطالعاتنا في اللغة الانجليزية فنرى الترجمات المطلوبة فيها وهى في الغالب عن رجالها، أما جمال الدين فعذرنا في اغفال ترجمته هو أننا لا نعرف الرجل ولم نقرأ له الا كتيبا لا يستحق لأجله مدحا.
وتحدث المقتطف عن الاستعمار البريطانى (يونيه ١٩٠٤) واعتذر لهم عن أنهم احتلوا أقطار الشرق بأن "بلاد الانجليز جزائر. ليس فيها من الحاصلات الزراعية ما يكفى أهلها فلما كثروا اضطرا أن يركبوا البحار ويتجروا بمصنوعاتهم فأوصلتهم التجارة إلى أمريكا والهند وأفريقية واتفق أن بعض البلاد التي دخلوها كانت أحكامها مختلة معتلة أو كانت خالية من الأحكام فكانوا يضطرون أن يلجأوا إلى القوة دفاعا عن أنفسهم، والقوة تدعو إلى الغلب والتملك".
وبرر الدكتور صروف الاحتلال البريطانى في مقتطف (يناير ١٩٠٧) فقال:
أن "الذى جرى عليه أهل السياسة حتى الآن أنهم دخلوا بلادا امتلكوها كما فعل الأتراك لما دخلوا القطر المصري والسورى وكما فعل محمد على عندما دخل السودان فانه امتلكها بحق الفتح. أما الذي فعله الانجليز في القطر المصري والقطر السودانى فبين بين، لأنهم دخلوا القطرين واحتلوهما ولم يمتلكوهما بل اقتصروا على مساعدة الوطنيين في ادارة شئون البلاد، ولقد كان الداعى إلى دخولهم القطر المصري اختلال الأمن فيه وخوف أصحاب الديون المصريين على أموالهم. وأكثرهم من الانجليز والفرنسيون، ولما استقل السودان عن مصر وسار بلادا مطموعا فيها لو لم تسترده مصر بمساعدة انكلترا لفتحته فرنسا أو أى دولة أخرى وضمته إلى أملاكها وتحكمت بالنيل على أسلوب يجعل القطر المصري في قبضة يدها وتحت رحمتها فقامت بريطانيا وساعدت مصر على استرجاع السودان وقد استفاد