للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

-٢ -

قامت الثورات المختلفة في الوطن العربي نتيجة للتعبئة الفكرية والروحية التي قام بها قادة أبرار، وكانت هذه الثورات على الاستعمار تحمل لواء الدعوة إلى الحرية واجلاء الأجنبى واسترداد حق الأوطان في الحكم والحياة.

ولقد قاوم الاستعمار هذه الثروات بالحديد والنار وقتل وشنق وسجن وأبعد مئات من الأحرار الذين قادوا هذه الثورات.

وامتدت هذه الثورات وترابطت في الأقطار المختلفة فثورة مصر ١٩١٩ بعد الحرب العالمية الأولى كانت مقدمة لثورة ١٩٢٠ في العراق و ١٩٢٤ في السودان و ١٩٢٥ في سوريا.

وكانت هذه الثورات في مفهومها مقدمة لتحرير هذه الأجزاء من الأوطان من الحماية ومن الاحتلال. وقد عمد الاستعمار إلى اطفاء نار هذه الثورات بوضع الماء على لهيبها المتقد، وتحويل هدفها والقضاء على روحها. فقد كان للمستعمر أعوان وعملاء أعدهم للدور الذي أطلق عليه الحكم الذاتي، ولم يرفع الاستعمار يده عن الحماية الا بعد أن درب عددا من أعوانه ليتسلموا زمام الحكم من بعده، وفي مصر مثلا كان حزب الأمة هو القوة التي خلقها الاستعمار البريطانى منذ بدأ الاحتلال ١٨٨٢ إلى ١٩٢٢ حين صدر تصريح ٢٨ فبراير الذي أعلن فيه استقلال مصر وكان في خلال هذه الفترة قد قضى على القوة الوطنية الفعالة التي كان يقودها مصطفى كامل ومحمد فريد حتى لم يعد لها من الشأن بعد الحرب، ما يمكنها من تولى شئون الحكم فضلا عن أنها كانت لا تؤمن بالمفاوضة الا بعد الجلاء الكامل وترفض تولى الحكم في ظل الاستعمار، أما هذه القوة التي أعدها خلال فترة ما قبل الحرب فقد كانت تؤمن بالالتقاء بالاستعمار في منتصف الطريق وقبول ما يرضى الاستعمار بالتنازل عنه تدريجيا، ولا يرى بأسا من تولى الحكم في ظل الاحتلال، لذلك كان اللقاء الأول بين ممثلى مصر وبين ممثلى بريطانيا بعد الهدنة بضم ثلاثة من حزب الأمة هم على شعراوى وعبد العزيز فهمى وسعد زغلول.

وقد كانت ثورة ١٩١٩ في مصر هى عملية تفريغ للشحنة الوطنية والروحية والفكرية التي قام بها الحزب الوطنى والتي كانت تحمل معنى واضحا هو اجلاء المستعمر عن أرض الوطن.

وقد هزت هذه الثورة العالم الغربي عامة وبريطانيا وكشفت عن روح المقاومة الباسلة، لذلك فان بريطانيا استطاعت أن تقضى على هذه الروح باعطاء مصر "الاستقلال" في ظل الاحتلال والسماح باعلان الدستور واقامة الحكم النيابى تحت سلطة المعتمد البريطانى وبواسطة أعوانه من رجال الأحزاب ولم تحقق ثورة عام ١٩١٩ ما كانت قد اندلعت من أجله، بل ماتت أهدافها وذوت وحل بدلها تيار عاصف من الغزو الثقافي والسياسى والاجتماعى الذي كان بعيد المدى في القضاء على الروح الوطنية الأصيلة وتحويلها إلى عراك سياسى وصراع حزبى حول الغنائم والأسلاب وكراسى الوزارة والبرلمان والى خلاف متضرم شامل حجب الهدف الأصيل وهو تحقيق الجلاء وبناء الوطن.

ولعل هذه الصورة لثورة ١٩١٩ هى نفس الصورة لثورات الأقطار العربية المختلفة في الفترة التي تخلى فيها الاستعمار عن الحكم بنفسه وأوكل الحكم لأعوانه وعملائه.

وقد تأثر الفكر العربي الإسلامي بهذا التطور فأصبح المثقفون خداما لدى أصحاب المصالح الحقيقية والاقطاعيين وأصبحت أقلامهم مؤجرة لأهدافهم، وظهر تجمع أكبر عدد من المثقفين في حزب واحد صنعه الانجليز بعد الاستقلال ليقاوموا به حزبا آخر يضم الأغلبية الساحقة، وكان جل أتباعه هم أعضاء حزب الأمة القديم الذي صنعه الاستعمار في ظل الحماية ليقاوموا به الوطنيين الذين قادهم مصطفى كامل ولم يكونوا في واقع الأمر حزبا بل كان الوطن كله.

ولقد حرص الاستعمار بعد القضاء على الثورات الوطنية التي قامت في أنحاء الوطن العربي كله من المحيط إلى الخليج أن يقهرها بقوة الحديد والنار، وأن يحول

<<  <   >  >>