مجرى ثورتها دون أهدافها الطبيعية فيفرض على هذه الأوطان حكاما من أنصاره وأعوانه، مع ابعاد المجاهدين عن أوطانهم حيث أبعد خيرى باشا التونسى ومحمد فريد وعبد العزيز شاويش وعبد العزيز الثعالبى وسليمان البارونى (ليبيا) وشكرى القوتلى وشكيب أرسلان وعلى الغاياتي.
لقد أراد هؤلاء أن يجعلوا قضية تحرير أوطانهم عالية، وكان مصطفى كامل هو أول من خرج بقضية مصر من النطاق المحلي، كذلك خرج شكيب أرسلان بقضية البلاد العربية وطاف عبد العزيز الثعالبى بالعالم الإسلامي مبعدا عن وطنه أربعة عشر عاما وطاف محمد فريد بأوربا وتركيا ثمان سنوات ومات مغتربا في برلين.
ولكن الاستعمار حرص دائما أن يجعل من قضية كل عربي قضية محلية، في نفس الوقت الذي تضافرت فيه قوى الاستعمار على مقاومة الأحرار، وقد ظن مصطفى كامل نتيجة للخلاف القائم بين بريطانيا وفرنسا أن في استطاعته استغلال فرنسا للدفاع عن قضية مصر، غير أن الدولتين لم يلبثا أن عقدتا الاتفاق الودى ١٩٠٤ وأطلقت كل منهما يد الآخر في البلد الذي تحتله: فرنسا في تونس وانجلترا في مصر.
بل أن تصريح ولسون الذي أعلن حق كل شعب في تقريره مصيره كان له هزة كبرى في مصر والعالم العربي فلما أبرق زعماء مصر اليه يطالبون تأييده أعلن ولسون أنه يوافق على بقاء بريطانيا في مصر، وحال الاستعمار دون توحيد جبهة العمل لتحرير الوطن العربي وكان فيصل عن سوريا وسعد زغلول عن مصر وعبد العزيز الثعالبى عن تونس في وقت واحد في مؤتمر الصلح، ولكن الاستعمار حال دون التقائهم، ورفض سعد زغلول توحيد جهاده مع العرب الذين يمثلهم فيصل، وقال أن ذلك سيحول بين بريطانيا وبين الاتفاق معه.
ولذلك فقد لقى كل منهم الهوان وحيل بينه وبين دخول مؤتمر الصلح، فلما عاد إلى الدولة المحتلة ليتفاهم معها عرضت عليه عرضا مهينا، وكانت الشعوب أقوى من الزعماء، فان ملنر الذي جاء مصر ورفض أبناء الشعب الالتقاء به - اضطر سعد زغلول أن يجلس معه على مائدة للمفاوضة وقدم سعد مشروعا اعترف فيه بموافقة مصر على بقاء جيش الاحتلال خلف قناة السويس (وهذا نص المادة ٨ من مشروع سعد باشا إلى ملنر في ١٧ يوليه عام ١٩٢٠ "لبريطانيا العظمى اذا رأت لزوما أن تنشيء على مصاريفها بالشاطئ الآسيوى لقنال السويس نقطة عسكرية للمساعدة على ما عساه يحصل من الهجمات الأجنبية على القنال وتحديد هذه المنطقة يحصل بعد بمعرفة لجنة مكونة من خبراء عسكريين من الطرفين بعدد متساو) ".
وهذا العرض يبين المدى البعيد بين مطالب محمد فريد الذي كان في هذه الفترة منفيا مريضا في احدى أزقة برلين، وبين عروض سعد باشا الذي كان يمثل وطنية ما بعد ثورة ١٩١٩ وهو أكبر وراثها، وقد رفض ملنر مشروع سعد باشا بالرغم من هذا، وأعلن في مواجهة وفد مصر: أن بريطانيا واضعة يدها على كل شيء في مصر وأنه لا ينقصها الا أن يكون ذلك شرعيا بموافقة وفد مصر وعرض ملنر:
- منح بريطانيا (العظمى) حق ابقاء قوة عسكرية في الأرض المصرية لحماية مواصلاتها الامبراطورية.
- تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية مستشارا ماليا يعهد اليه في الوقت اللازم بالاختصاصات المالية التي لأعضاء صندوق الدين.
- تعين مصر بالاتفاق مع بريطانيا موظفا في وزارة الحقانية يتمتع بحق الاتصال بالوزير، ويجب احاطته بجميع المسائل المتعلقة بادارة القضاء فيما له مساس بالأجانب.
- يمنح الممثل البريطانى مركزا استثنائيا في مصر ويخول حق التقدم على جميع الممثلين الآخرين.
- ألا تعقد مصر مع أى دولة أى اتفاق الا بعد موافقة بريطانيا ولا تعين موظفين الا باذنها.
وكان هذا هو ثمرة ١٩١٩ ومنهج ورائها. ومدى تطور المفاهيم الوطنية عن طريق القوى الجديدة التي سيطرت على الحكم في مصر بعد القضاء على الدعوة الوطنية المتحررة التي كانت تطالب بالجلاء الكامل. وقد عاش دعاة الحزب الوطنى في ظل المدرسة (الواقعية الجديدة) المؤمنة بالتعاون مع الانجليز موضع السخرية والتهكم من الأحزاب الحاكمة، لأنهم دعوا إلى "المفاوضة بعد الجلاء" ووجهت عبارات الهجاء العنيف إلى مصطفى كامل ومحمد فريد على اعتبار أنهما كانا خياليين مغرقين في أوهام.