[دور الحضارة في معركة الغزو الثقافي]
أجمع المؤرخون والمفكرون المتصفون أن الحضارة العالمية التي أطلق عليها " الحضارة الغربية" هى تراث انسانى عالمى شاركت فيه البشرية كلها, وكان للعرب دور كبير فيه. فان جذور هذه الحضارة التي قامت في عصر النهضة كانت نتيجة لنقل العلوم إلى أنشأها المسلمون والمترجمات التي نقلوها عن اليونان وأضافوا اليها ونموها في مختلف الفنون وهى ليست غريبة الا بالاسم انما هى ملك مشاع للانسانية وهى ثمرة الحضارات القديمة جميعها.
***
[موقف المسيحية من الحضارة]
قامت الحضارة العالمية العصرية على أساس المادة والايمان بقدرة العلم المطلقة, وقد ارتبط الأساس المادى للحضارة بانكار الدين والروحية وأسس الألوهية والنبوات واقامة مذهب البحث على أساس العدمية والإلحاد والشك في كل ما وراء الواقع الملموس وقصر الايمان على ما يصل اليه البحث بالملاحظة والاستقراء.
وترجع هذه الخصومة للدين إلى موقف الكنيسة الأوربية من العلم والحرية اذ ناهضتهما واستعدت محاكم التفتيش على العلماء وأفكارهم وبذلك ارتبط "الدين" في عرف الغرب بالتعصب والوقوف في وجه العلم, وهكذا كان على الحضارة أن تصارع الكنيسة الأوربية اذ وجدتها جامدة معارضة لقبس الحرية وضياء الفكر, كما طاردت رجال الكنيسة إلى المعابد والأديرة وأعلنت فصل الدين عن الدولة وبذلك لم تبق المسيحية في المغرب الا كتراث تاريخى ووسيلة للاستعمار في خارج أوربا, وكذلك قامت الحضارة الغربية على الإلحاد والشك والمادية والاباحية والتهافت على اللذه واطلاق الغرائز وتجهيز المرأة بالمغريات وقيام مذهب الاثرة وشرعية الربا وتغليب مذهب "الغاية تبرر الواسطة" واصطناع الميكافيلية في السياسة وهى انكار الأخلاق في سبيل تحقيق الغرض والبراجماتزم (وهو مذهب الذرائع وتبادل المنافع الذي يجعل لكل شئ ثمنا ومقابلا).
[موقف الانسان من الحضارة]
كان الغزو الثقافي الغربي حريصا على أن ينقل إلى الفكر الغربي هذه الشكوك والنزعات والزويا الحادة المتضاربة, محاولا تطبيق نظرياته على المجتمع العربي بمعقائدة ومذاهبه وأفكاره وتراثه, غير أنه لم يقدر مدى الفروق بين الكنيسة وجمودها الذي واجه الحضارة الغربية وبين الإسلام, فقد قصرت المسيحية عن التطور والاستجابة للحضارة, ولكن الإسلام لم يكن طوال حياته جامدا, بل كان مرنا قادرا على مواجهة التطور في مختلف العصور والبيئات والأزمنة, قادرا على الالتقاء بالحضارات والثقافات المختلفة, والاقتباس منها , وله في ذلك تجربة ضخمة تكاد تكون مثلا حيا لذلك هى تجربته في اقتتباس الثقافة اليونانية والرومانية وحضارتهما, فقد قامت في ظل الدولة العباسية مدرسة ضخمة للترجمة والاقتباس كانت بعيدة المدى في تطوير كل فنون الثقافة العربية وترجمة كتب العلم والطب والفن والفلسفة, اذ حمل عباقرة علماء العرب هذه الفنون وزادوا فيها وأضافوا اليها وأقاموا نهضة علمية بعيدة المدى استمرت خمسة قرون كانت أوربا خلالها تعيش في دياجير الظلام حملت لواءها جامعات دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة,
ثم عاد الغرب فاتصل بهذه الحضارة عن طريق الأندلس وفرنسا وعن طريق الحملات الصليبية, وعن طريق تركيا العثمانية, وعن طريق رحلات العلم المختلفة التي قان بها العلماء الغربيون إلى الشرق.
***
[الحضارة ومجتمع الغرب]
لقد كان للحضارة المادية, اثرها في المجتمع الغربى, هذا المجتمع الذي عاش حياة مضطربة لم تعرف الاستقرار نظرا لكثرة المذاهب والعقائد والنزعات وتضاربها وتغلب الطامع والصراع المادى وقد تردد الغرب بين عشرات المذاهب التي خلقها وحاول بها أن