للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

-٥ -

حملات التغريب والغزو الثقافي

ليس شك أن حركة "تغريب الشرق" هى دعوة كاملة لها نظمها وأهدافها ودعائمها ولها قادتها الذين يقومون بالاشراف عليها.

وهى حلقد من مخطط واسع في تأكيد الاستعمار ودعمه، وعمل استعمارى فكرى بعيد المدى قصد به إلى القضاء على معالم الشخصية العربية وتحويل هذه الأمة إلى الصورة الغربية ومسخ ملامحها.

ويدعو "التغريب" إلى تغليب الأنظمة والمذاهب والثقافات الغربية والقضاء على القيم والتراث العربي والمذاهب والثقافات الإسلامية.

وقد اصطنع التغريب لتحقيق رسالته وسائل متعددة، كان برزها أعمال الاستشراق والتبشير والامتيازات وفرض المعاهدات على الأقطار المحتلة والزامها باتخاذ أنظمة الحكم الغربي وفرض الارساليات والمعاهد والجماعات باتجاهاتها التبشيرية.

واستهدف الاستعمار من وراء حملة "التغريب" تركيز قواعده التي اقامها بالاغتصاب والتسلط والغزو العسكرى، وذلك محاولة تغيير مفاهيم الوطن العربي ومحاولة كسب عقليات الشعوب وتفكيرها وعواطفها إلى صفة والفصل بينها وبين ماضيها وقيمها، ومحاولة تحطيم هذه القيم والتشكيك فيها واثارة الشبهات حول الدين واللغة والتاريخ ومعالم الفكر ومفاهيم الآراء والمعتقدات جميعا.

وقد بدأ الغزو الثقافي قبل الغزو العسكرى ومعه، وتسللت جيوشه في أزياء العلماء والمبشرين الذين يدرسون عقليات الشعوب ونفسياتها وبقرأون تاريخها السيايى والفكرى، وبدأت مؤسسات أمريكية وفرنسية وبريطانية تعمل في هذا المجال باسم: الدارس والصحافة والثقافة والتربية والتعليم والسينما وفي ميادين أخرى كالتطيب.

ولقد كان لتعدد هذه الألوان من الثقافات أثرها في بلبلة الفكر العربي الإسلامي واضطرابه وتخريج أفواج متعددة تدين كل طائفة منها بالولاء للجهة التي خرجتها.

وقد "كان هذا التعليم - كما صورة جبران خليل جبران- يأتى من الغرب بشكل الصدقة. وكنا ولم نزل ناتهم خبز الصدقة لأننا؟ متضورون. ولقد احيانا ذلك الخبز، ولما أحيانا أماتنا. احيانا لأنه أيقظ بعض مداركنت ونبه عقولنا قليلا. وأماتنا لانه فرق كلمتنا وأضعف وحدتنا وقطع روابطنا وأبعد ما بين طوائفنا حتى أصبحت بلادنا مجموعة مستعمرات صغيرة مختلفة الأذواق متضاربة المشارب. كل مستعمرة منها تشد في حبل احدى الأمم الغربية ورفع لواءها وتترنم بمحاسنها وأمجادها، فالشاب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أمريكية قد تحول بالطبع إلى معتمد امريكى. والشاب الذي تجرع رشفة من العلم يسوعية صار سفيرا فرنسيا والشاب الذي لبس قميصا من نسج مدرسة روسية أصبح ممثلا لروسيا".

أضف إلى هذا الأثر للغزو الثقافي ما قاله لورد كرومر من "أن الشبان الذين يتلقون عاومهم في انجلترا وأوربا يفقدون صلتهم الثقافية والروحية بوطنهم ولا يستطيعون الانتماء في نفس الوقت إلى البلد الذي منحهم ثقافته فيتأرجحون في الوسط ويتحولون إلى مخلوقات شاذة ممزقة نفسيا".

وكان هذا بالطبع هو الهدف من الارساليات المختلفة التي غزت بلادنا والبعثات المرسلة إلى التعلم في أوربا.

وهكذا كان "التغريب" عملا منظما دقيقا قوامه الحرب المنظمة للقيم الذي عاشت عليها الأمة والحيلولة دون وصول أضواء الثقافة والعلم الغربي الينا

<<  <   >  >>