للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

(١)

الاستشراق

كان الاستشراق والتبشير من أبرز أدوات التغريب والغزو الثقافي. ولا شك أن بين الاستشراق والتبشير فوارق واضحة. ذلك أن الاستشراق "عمل ثقافى" وحمل معنى دراسة الشرق وجغرافيته وتاريخه ونفسية أممه وتراثه. وليس الكشف عن التراث المدفون والمخطوطات الفردية النادرة وتقديمها محققة مراجعة على مختلف النسخ مبوبة مفهرسة الا غشاء شفاف يخفى الهدف والغاية التي هى في حقيقتها "استكشاف الأرض المستعمرة" واعدادها للغزو والتبشير وسيطرة الاستعمار.

***

[الاستشراق والمستشرقون]

أما التبشير فهو "حركة" ينتقل بها مجموعة من المرسلين إلى بلاد الشرق حيث ينشئون المدارس أو المستشفيات أو المعاهد التي تجتذب أبناء البلاد وفق منهج مرسوم لنشر المسيحية بينهم.

غير أن هناك بين الاستشراق والتبشير خيوطا دقيقة وصلات أساسية تتجه كلها إلى الهدف الذي رسمه الاستعمار وهو التغرب والغزو الثقافي.

ولقد بدأ الاستشراق والتبشير معا بعد الحروب الصليبية ونشأ في حضانة الكنيسة والبابا، وكان الاستشراق يستهدف ترجمة القرآن إلى لغات أوربا وترجمة الانجيل والتوراة إلى اللغة العربية.

أما التبشير فهو قوام حركة الغزو الثقافي الغربي وفق مخطط مدروس على أساس استغلال الطلاب والمرضى وتحويل عقائدهم والتأثير على مفاهيم وتحطيم معنوياتهم وتنشئة أجيال ممسوخة مبلبلة العقائد مضطربة الثقافة منكرة لقيمها وتراثها ولغتها وتاريخها وبذاك يمكن القول أن المستشرقين هم طلائع المبشرين" وليس ما يمنع من أن ننظر إلى رجال الاستشراق على أساس أنهم علماء لهم جهد وكفاية وقد قدموا أعمالا عامة في احياء التراث، غير أن الهوى والتعصب كان عند أكثرهم ييغلب على الحق والانصاف وأنهم لم يطبقوا المذهب العلمى الذي نادوا به في أبحاثهم، واذا أخذنا برأى باحث تغلغل في هذه الأوساط وتعرف بالمستشرقين وعاشرهم وصحح معهم ترجمة التوراة وخدم مطابعهم في مالطة ولندن كفارس الشدياق وضعنا نظارات سوداء على أعيننا ونحن ننظر إلى أعمال المستشرقين فهو يقول (ذيل الفارباق ص ٢): أن هؤلاء الأساتيذ لم يأخذوا العلم من شيوخه وانما تطفلوا عليه تطفلا وتوثبوا توثبا. ومن تخرج فانه بشئ فانما تخرج على القسس ثم أدخل رأسه في أضغاث أحلام وتوهم أنه يعرف شيئا وهو بجهله، كل منهم اذا درس في احدى لغات الشرق أو ترجم شيئا منها تراه يخبط فهما خبط عشواء، فما اشتبه عليه منها رفعه من عنده بما شاء، وما كان بين الشبهه والتبين حدس فيه وخمن فرجع منه المرجوع، وفضل المفضول".

ونحن اذا نظرنا في عوامل نشأة الاستشراق وجدنا هدفه وغايته.

لقد نشأ الاستشراق لمقاومة الامتداد والتوسع العربي الإسلامي، هذا الامتداد الذي عبر إلى أوربا وسيطر على أسبانيا واجتاح جزءا من جنوب فرنسا حتى مدينة (بواتيه) أو بلاط الشهداء، ونفذ إلى جزيرة صقلية وبدأ يسيطر على جنوب ايطاليا معقل المسيحية، وكان من نتيجة ذلك أن تألف (مؤتمر فيينا ١٣١١) الذي ترأسه البابا كليمان الخامس وتقرر فيه تأسيس مدارس خاصة في برلين وبولون واكسفورد وسلمنكة تدرس فيها العربية والعبرانية والكلدانية لنخرج وعاظ يستطيعون تنصير المسلمين أو تشكيكهم في عقائدهم.

وقد كان هذا العمل الذي بدأ في أحضان البابوات

<<  <   >  >>