للتوراة ـ أو العهد القديم ـ أهمية أكبر في نظر البروتستانت من الإنجيل أو العهد الجديد، وبدأت صورة الأمة اليهودية تتغير تبعاً لذلك في أذهان المسيحيين الجدد. ولم يكن الانشقاق داخل الكنيسة ـ رغم الطابع الأيديولوجي الذي اصطبغ به ـ بعيداً عن صراعات السيادة بين الأمم الأوروبية يومها، خصوصاً بين فرنسا وإنجلترا وألمانيا، فقد انحازت الكنيسة الكاثوليكية إلى جانب فرنسا، مما جعل الشعبين الإنجليزي والألماني يميلان إلى اعتناق المذهب البروتستانتي الذي يدعو للتحرر من سلطة الكنيسة.
وقد ظهر هذا التحول في النظرة المسيحية إلى اليهود في كتابات رائد الإصلاح البروتستانتي، القس الفيلسوف (مارتن لوثر). فقد كتب لوثر عام ١٥٢٣ كتابا عنوانه:(المسيح ولد يهودياً) قدم فيه رؤية تأصيلية للعلاقات اليهودية المسيحية من منظور مغاير تماما لما اعتاده المسيحيون من قبل، فكان مما قال في كتابه:"إن الروح القدس شاءت أن تنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم. إن اليهود هم أبناء الرب، ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل من فتات مائدة أسيادها"(١). ومع ذلك لم يكن مارتن لوثر حاسماً في موقفه من اليهود، بل كان متردداً مثقلا بتراث الماضي السحيق، ولذلك عاد فألف كتاباً آخر في ذم اليهود سماه (ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم)، بعدما يئس من دفعهم لاعتناق المسيحية. لكن (لوثر) فتح ثغرة في تاريخ المسيحية لصالح اليهود ظلت تتسع إلى اليوم. وظلت كفة الصراع بين مدرسة ٠المسيح ولد يهودياً) ومدرسة (ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم) تتأرجح في الضمير الغربي طيلة القرون الأربعة التالية لكتابة هذين الكتابين، حتى حسم الأمر أخيرا للمدرسة الأولى. ومما يلاحظ أن هذا المسار التاريخي لم يعرف العدل ولا التوسط: فاليهود تحولوا من (أمة ملعونة) إلى (أبناء الرب)، من (الغيتو) إلى قمة المجتمع، من (أمة مدنسة) ظلمها المسيحيون كثيراً، إلى (أمة مقدسة) يظلم بها المسيحيون شعوباً أخرى لا صلة لها بتاريخ التدنيس والتقديس هذا.
(١) المسيح اليهودي ـ رضا هلال ـ ص٦٣ - مكتبة الشروق الدولية