منذ البداية، بدا كما لو كانت المسيحية وليدة لليهودية أو بالأقل ـ امتداد لها. وقد أوجد ذلك الانطباع وقواه تراوح آباء الكنيسة في موقفهم من تخريبية شاول (بولس) الذي امتلأ من الروح القدس بغتة بعد اضطهاد طويل للديانة الجديدة، فغير اسمه إلى بول، وشمر عن ساعد الجد، وبحجة الترويج للمسيحية عمل على تخريبها بردها إلى اليهودية، وإفراغ تعاليم المسيح من مضامينها المسيحية. كما قوى ذلك الانطباع وأضفي عليه تصديقاً رسمياً، قبول آباء الكنيسة بالجمع بين كتابات اليهود الدينية (العهد القديم)، وبين الأناجيل التي تعتبر تأريخاً بشرياً لحياة المسيح وترديداً لتعاليمه.
فبعد انقضاء عشرات السنين على وفاة بولس، ورغم عدم تحقق نبوءاته عن نهاية العالم، وعن المجيء الثاني لعيسى فإن الكنيسة بقيت متمسكة بها ولم تبحث لنفسها عن أية إمكانية للتراجع أو المراجعة، ولقد ارتبطت نهائياً والى غير رجعة بفكر بولس وبنظرياته اللاهوتية، ولم يعد هنالك إمكانية لبحث الأمور من جديد، ولا العودة إلى رسالة عيسى التاريخية. فقد صار هناك مؤسسه كنسيه مبنية على فكر بولس، ولم يعد من مصلحة أحد نسفها. وكان البديل الوحيد الذي ألزمت الكنيسة نفسها به هو محاولة البحث عن مخرج منطقي للاهوت بولس، رغم عدم وجود شيء من هذا القبيل. فالتناقض الجوهري بين تعاليم السيد المسيح وبين ما جاء في العهد القديم، جعل محاولة آباء الكنيسة التوفيق بين العهد القديم والجديد فاشلة (١). ولهذا الغرض وللمحافظة على مسار الكنيسة وإيجاد مخرج لها فقد لزم أن يقوم المنظرون واللاهوتيين بمحاولات لتفسير المتناقضات وإخراجها بشكل فلسفي تفسيراً رمزياً غير حرفي، حيث حاول آباء الكنيسة الإفلات من ذلك المأزق الخطر بالتشبث بحيلة الكناية والرمزية .. وفي الوقت نفسه ركزوا سيراً على خط أوغسطين، على حكاية العصر الألفي السعيد، فقالوا إنها لا يجب ان تأخذ مأخذاً حرفياً نظراً لأنها مسألة روحانية لا مادية وإنها كناية عن العصر الذهبي الذي دخلته