يأتي في المرتبة الثانية مواطنو الدرجة الثانية من المسيحيين الشرقيين في دويلات الصليبيون يقابلهم اليهود الشرقيون في الدولة الصهيونية. وأخيراً يأتي مواطنو الدرجة الثالثة وهم المسلمون واليهود وبعض المسيحيين العرب في دويلات الصليبيون، والمسلمون والمسيحيون العرب في الدولة الصهيونية.
والمجتمع الاستيطاني مجتمع مزروع أو مشتول في العادة، فهو يأخذ شكل الدولة الجيتو أو الدولة القلعة، التى تقوم بدور أوكل إليها في جمع الضرائب والإيجارات والإشراف على إدارة مصالح اسيادها حيث تحميها القوة العسكرية. وهذا المجتمع منعزل عن بيئته وينصرف جزء كبير من نشاطه إلى عملية القتال ضد السكان المحليين. وهذه مسألة ليست عرضية وإنما هي مسألة جوهرية وتنبع من الوظيفة نفسها. والعالم الغربي يزود الجيوب الاستيطانية بالعون ومقومات الحياة حتى تظل ركيزة لنشاطاته الإمبريالية والتوسعية. وينطبق هذا الوضع على الجيبين الصليبي والصهيوني، وإن كان يبدو أن الدعم الغربي للجيب الصهيوني يفوق الدعم الغربي للجيب الصليبي (١).
كما أن أزمة التجمُّع الصليبي لا تختلف عن أزمة التجمع الصهيوني. فيُلاحَظ أن الكيان الصليبي كان يعاني من أزمة سكانية لا تختلف كثيراً عن أزمة المستوطن الصهيوني، وذلك نظراً لانخفاض عدد سكان أوربا عام ١٣٠٠ بعد انتهاء فترة تزايد السكان، الأمر الذي أدَّى إلى عدم مجيء المزيد من المادة البشرية، كما كان الكيان الصليبي يعاني من تناقص نسبة المواليد. وكان كثير من الأراضي التي ضمها الصليبيون يزرعها سكانها الأصليون العرب. بل إن بعض الأقنان الذين جاءوا مع حملات الصليبيون اشتغلوا بأعمال أخرى غير الزراعة، نظراً لعدم درايتهم بالتربة وربما لتفتُّح فرص اقتصادية أخرى بحيث أمكنهم العمل في التجارة. ويشبه هذا زحف العرب التدريجي على الزراعة داخل المُستوطَن الصهيوني وضمن ذلك الكيبوتسات، وتحوُّل المستوطنين الصهاينة إلى مهام أخرى غير الزراعة.
ولا تنحصر نقاط التشابه بين المشروعين الصليبي والصهيوني في الظروف الاجتماعية والجغرافية المحيطة بكل منهما، ولا في بنية الكيانين فقط، وإنما تمتد
(١) الموسوعة الصهيونية - د. عبد الوهاب المسيري المجلد السادس ص ١٠٨