للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أ- عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له ليلة الجن: «ما في إداوتك (١)؟» قال نبيذ، قال: «تمرة طيبة وماء طهور» (٢).


(١) الإداوة بالكسر: المطهرة، وجمعها الأداوى. انظر: مختار الصحاح ص ٩؛ المصباح المنير ص ٩.
(٢) أخرجه من طريق شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد عن عبد الله بن مسعود: أبو داود في سننه ص ١٨، كتاب الطهارة، باب الوضوء بالنبيذ، ح (٨٤)، والترمذي في سننه ص ٣٢، كتاب الطهارة، باب الوضوء بالنبيذ، ح (٨٨) -وزاد: (قال: فتوضأ منه) -، وابن شاهين في ناسخ الحديث ص ١٨٢.
وأخرجه من طريق سفيان عن أبي فزارة به: ابن ماجة في سننه ص ٨٤، كتاب الطهارة، باب الوضوء بالنبيذ، ح (٣٨٤)، والإمام أحمد في المسند ٧/ ٣٢٤، والبيهقي في السنن الكبرى ١/ ١٤.
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف ١/ ١٧٩، من طريق الثوري وإسرائيل عن أبي فزارة العبسي به، والإمام أحمد في المسند ٦/ ٣٦٠، من طريق إسرائيل عن أبي فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن عبد الله بن مسعود به. ولفظه عند أحمد: (كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة لقي الجن فقال: «أمعك ماء؟» فقلت: لا، فقال: «ما هذا في الإداوة؟» قلت: نبيذ، قال: «أرنيها، تمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ منها ثم صلى بنا».
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ١/ ٣٢، من طريق وكيع بن الجراح عن أبيه عن أبي فزارة عن أبي يزيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود به.
وأخرجه الإمام أحمد في المسند ٧/ ٣٩٠، من طريق أبي عميس عتبة بن عبد الله عن أبي فزارة به مطولاً.
وقد أعل هذا الحديث بثلاث علل:
أحدها: التردد في أبي فزارة هل هو راشد بن كيسان أو غيره، قال ابن الجوزي في التحقيق ١/ ٤١: (قال أحمد بن حنبل: (أبو فزارة في حديث ابن مسعود رجل مجهول) ثم قال: فإن قيل: أبو فزارة اسمه راشد بن كيسان، أخرج عنه مسلم، وكذا الدارقطني: أبو فزراة في حديث النبيذ اسمه راشد بن كيسان.
فجوابه من وجهين: إحداهما: أنهما اثنان، فالمجهول هو الذي في هذا الحديث، ودليل هذا قول أحمد: أبو فزارة في حديث ابن مسعود مجهول، فاعلم أنه غير المعروف. والثاني: أن معرفة اسمه لا تخرجه عن الجهالة).
وأجيب: بأنه راشد بن كيسان، وهو ثقة معروف، روى له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة. أما أبو فزارة المجهول فليس له رواية في أي من الكتب الستة. انظر: التنقيح ١/ ٤٢؛ التقريب ١/ ٢٨٩، ٢/ ٤٥٢.
قال ابن عبد الهادي في التنقيح ١/ ٤٢: (أبو فزارة في الحديث الأول هو راشد بن كيسان بلا خلاف، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وروى له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وابن ماجة-إلى أن قال: -ووثقه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: صالح. وقال الدارقطني: ثقة كيس، ولم أر له في كتب أهل النقل ذكرا بسوء في دين أو خرمة). وقال في ١/ ٤٣: (وقال ابن عدي: بعد أن روى هذا الحديث: أبو فزارة مشهور الحديث اسمه راشد بن كيسان. وما ذكره المؤلف من الإمام أحمد أن أبا فزارة مجهول ليس بثابت عنه، والظاهر أن الراوي غلط، وإن قول أحمد إنما هو في أبي زيد).
وعلى تقدير أن أبا فزارة هذا ليس هو راشد بن كيسان، فيقال: قد روى عنه سفيان الثوري وإسرائيل، وشريك، وجراح -أبو وكيع بن الجراح- وغيرهم، كما سبق ذلك في تخريج الحديث، وعلى هذا فيرتفع عنه الجهالة؛ لأن الجهالة عند المحدثين تزول برواية اثنين فصاعداً. انظر: نصب الراية ١/ ١٣٨.
العلة الثانية: جهالة أبي زيد المخزومي مولى عمرو بن حريث الذي يروي عن ابن مسعود:
قال الترمذي في سننه ص ٣٢: (وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث، لا تعرف له رواية غير هذا الحديث).
وقال البخاري: (أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ مجهول لا يعرف بصحبة عبد الله، ولا يصح هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو خلاف القرآن). وقال أبو زرعة: (حديث أبي فزارة في الوضوء بالنبيذ ليس بصحيح وأبو زيد رجل مجهول). وقال أبو حاتم: (لم يلق أبو زيد عبد الله). وقال ابن حبان: (أبو زيد شيخ يروى عن ابن مسعود ليس يدرى من هو، ولا يعرف أبوه ولا بلده، ومن كان بهذا النعت ثم لم يرو إلا خبراً واحداً خالف فيه الكتاب والسنة والإحماع والقياس استحق مجانبة ما رواه).
وقال غير واحد من أهل العلم: أن أبا زيد مجهول، حتى قال ابن عبد البر: اتفقوا على أن أبا زيد مجهول، وحديثه منكر. انظر: التنقيح ١/ ٤٣؛ نصب الراية ١/ ١٣٨؛ ميزان الاعتدال ٤/ ٥٢٦؛ التهذيب ١٢/ ٩١، ٩٢، التقريب ٢/ ٤٠٣.
ومع هذا فقد ذكر ابن العربي في عارضة الأحوذي ١/ ١٢٨، أن أبا زيد هذا روى عنه راشد بن كيسان وأبو روق.
وقد سبق أن الجهالة تزول برواية اثنين فصاعداً. وانظر: اللباب للمنبجي ١/ ٥٣؛ البناية للعيني ١/ ٤٦٩.
لكن الحديث هذا ضعفه غير واحد من أهل العلم: قال البخاري وأبو زرعة وابن عدي: لا يصح. وقال ابن المنذر: ليس بثابت. وقال ابن عبد البر: منكر. وقال ابن عبد الهادي: وحكى بعضهم الإجماع على ضعفه. انظر: التنقيح ١/ ٤٣؛ نصب الراية ١/ ١٣٨؛ التهذيب ١٢/ ٩١، ٩٢.
وقال النووي في المنهاج شرح صحيح مسلم ٢/ ١٢٧: (ضعيف باتفاق المحدثين) وقال في المجموع ١/ ١٤١: (ضعيف بإجماع المحدثين). وقال ابن حجر في الفتح ١/ ٤٢٢: (وهذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه).
العلة الثالثة: إنكار كون ابن مسعود شهد ليلة الجن: ففي صحيح مسلم ٢/ ١٢٧، من كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح، ح (٤٥٠) (١٥٠) عن علقمة قال: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن؟ قال: لا، … ) ثم في الحديث الذي بعده: (عن علقمة عن عبد الله قال: لم أكن ليلة الجن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووددت أني كنت معه).
لكن جاءت روايات كثيرة ومن غير طريق واحد عن ابن مسعود تفيد شهوده مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن، ومن ذلك:
ما رواه الإمام أحمد في المسند ٦/ ٣٣٢، من طريق عمرو البكالي عن عبد الله بن مسعود، قال عمرو: إن عبد الله قال: استتبعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فانطلقنا حتى أتيت مكان كذا وكذا، فخط لي خِطَّة فقال: «كن بين ظهري هذه لا تخرج منها فإنك إن خرجت هلكت» الحديث. ورجاله ثقات، إلا أن عمروا البكالي لم يعرف بالسماع من ابن مسعود، وقد اختلف في صحبته، قال ابن حجر في تعجيل المنفعة ص ٣٤٧: (عمرو البكالي بكسر الموحدة وتخفيف الكاف يكنى أبا عثمان، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى عن ابن مسعود أيضاً، روى عنه أبو عبد الله الهجيمي ومعدان بن أبي طلحة، قال البخاري: له صحبة، وذكره في الصحابة خليفة وابن البرقي وغيرهما- إلى أن قال: -وقد سمى ابن السكن أباه عبد الله-إلى أن قال: -قلت: وفي مسند البزار حديث صرح فيه بسماعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ٨/ ٢٦٤ - بعد ذكر هذا الحديث-: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير عمرو البكالي، وذكره العجلي في ثقات التابعين وابن حبان وغيره في الصحابة).
ومنها: ما رواه الترمذي في سننه ص ٤٣٩، كتاب الأمثال، باب ما جاء في مثل الله لعباده، عن طريق جعفر بن ميمون التميمي، عن ابن مسعود قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء ثم انصرف فأخذ بيد عبد الله بن مسعود حتى خرج به إلى بطحاء مكة فأجلسه ثم خط عليه خطاً ثم قال: «لا تبرحن خطك فإنه سينتهي إليك رجال فلا تكلمهم فإنهم لا يكلمونك» قال: ثم مضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث أراد، فبينا أنا جالس في خطي إذ أتاني رجال كأنهم الزط أشعارهم وأجسامهم، لا أرى عورة ولا قشراً وينتهون إليّ ثم لا يجاوزون الخط، ثم يصدرون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- … ) الحديث. قال الترمذي: (حديث حسن صحيح) وكذلك قال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (حسن صحيح).
وفي سنده جعفر بن ميمون التميمي: قال أحمد: ليس بقوي في الحديث، وكذلك قال: أخشى أن يكون ضعيفاً، وقال ابن معين: ليس بذاك، وقال مرة: صالح الحديث. وقال أبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: يعتبر به. وقال ابن عدي: أحاديثه منكرة، وأرجو أنه لا بأس به. وقال الحاكم: هو من ثقات البصريين. وذكره ابن حبان وابن شاهين في الثقات. وقال ابن حجر: صدوق يخطئ. انظر: ميزان الاعتدال ١/ ٤١٨؛ التهذيب ٢/ ٩٨؛ التقريب ١/ ١٦٤.
ومنها: ما رواه الحاكم في المستدرك ٢/ ٥٤٧، من طريق أبي عثمان ابن سنة الخزاعي أنه سمع عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه وهو بمكة: «من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فليفعل) فلم يحضر منهم أحد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطاً، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته … » الحديث. وكذلك أخرجه الطبري في تفسيره جامع البيان ١١/ ٢٩٩، و أبو نعيم الأصفهاني في دلائل النبوة ٢/ ٤٧٣، والبيهقي في دلائل النبوة ٢/ ٢٣٠، والمزي في تهذيب الكمال ٣٤/ ٦٧، كلهم عن طريق الزهري عن أبي عثمان بن سنة به.
قال الحاكم: وقد روي حديث تداوله الأئمة الثقات عن رجل مجهول عن عبد ا لله بن مسعود أنه شهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن، فذكره. وقال الذهبي في التلخيص: (هو صحيح عند جماعة).
وفي سنده أبو عثمان بن سنة، قال الذهبي في الميزان ٤/ ٥٤٩: (أبو عثمان بن سنة الخزاعي عن ابن مسعود في ليلة الجن ما أعرف روى عنه غير الزهري). وقال ابن حجر: مقبول ووهم من زعم أن له صحبة، وقال: روى عن ابن مسعود وعلي ابن أبي طالب، وروى عنه الزهري. انظر: تهذيب التهذيب ١٢/ ١٥٤؛ التقريب ٢/ ٤٣٤.
ومنها: ما قال الزيلعي في نصب الراية ١/ ١٤٣: (طريق آخر رواه الطحاوي في كتابه: حدثنا يحيى بن عثمان ثنا أصبغ بن الفرج وموسى بن هارون البردي، قالا: ثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس عن أبيه عن ابن مسعود قال: انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى البراز فخط خطاً وأدخلني فيه، وقال لي: «لا تبرح حتى أرجع إليك» ثم أبطأ فما جاء حتى السحر، وجعلت أسمع الأصوات ثم جاء، فقلت: أين كنت يا رسول الله؟ فقال: «أرسلت إلى الجن» فقلت: ما هذه الأصوات التي سمعت؟ قال: «هو أصواتهم حين ودعوني وسلموا علي» قال الطحاوي: ما علمنا لأهل الكوفة حديثاً يثبت أن ابن مسعود كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن مما يقبل مثله إلا هذا).
ويظهر من تتبع طرق حديث شهود ابن مسعود ليلة الجن أن الأحاديث في ذلك نوعان: نوع ليس فيه ذكر الوضوء بالنبيذ. ونوع فيه ذكر الوضوء بالنبيذ. والتي ليس فيها ذكر الوضوء بالنبيذ أقوى بالنسبة إلى التي فيها ذكر الوضوء بالنبيذ. كما أن النوعين بمجموعهما يعضد بعضها البعض، ويؤيد أن لها أصلاً؛ ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى الجمع بينها وبين ما روي عن ابن مسعود من طرق صحيحة أنه لم يكن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن، وذهبوا إلى الجمع بينهما بما يلي:
١ - أن ابن مسعود كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن إلا أنه لم يكن معه حال مخاطبته الجن، فيحمل ما روي أنه لم يكن معه ليلة الجن على حال المخاطبة.
٢ - أن معنى ما ورد عن ابن مسعود أنه لم يكن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد منا، معناه: أنه لم يكن معه أحد منا غيري. وهذا مصرح به في رواية الحاكم.
٣ - أن ليلة الجن تكررت فلم يكن ابن مسعود مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعضها، وكان شهد في بعضها.
لكن ذكر الوضوء بالنبيذ ورد في التي تدل على أنها كانت بمكة وقبل الهجرة، فيكون آية التيمم بعده. انظر: دلائل النبوة لأبي نعيم الأصفهاني ٢/ ٤٧١؛ دلائل النبوة للبيهقي ٢/ ٢٣٠؛ نصب الراية ١/ ١٣٩؛ تفسير القرآن العظيم لابن كثير ٤/ ١٦٧ - ١٦٩؛ البناية شرح الهداية للعيني ١/ ٤٧١.
والطريق الأولى لحديث ابن مسعود وما ذكر بعدها وكذلك الطرق التالية، كلها مما تفيد شهوده ليلة الجن.

<<  <  ج: ص:  >  >>