للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(تعليق الشاملة): الخاتمة السابقة هي المثبتة في الكتاب المطبوع (وهي مقتصرة على النتائج العامة). لكن في أصل الرسالة الجامعية أورد الباحث بالخاتمة ملخصا لمسائل ومطالب البحث كلها، فأوردنا هنانص خاتمة الرسالة الجامعية للفائدة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ووفقنا إلى الهداية، وجنبنا عن الغواية والضلالة، ووفقني لإتمام هذا البحث، فله الحمد والمنة أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.

وبعد:

فمع الرحلة الممتعة الطويلة مع البحث في موضوع النسخ ومسائله عرضاً واستطراداً، وشرحاً وتفصيلاً، ونقداً وترجيحاً، أذكر ملخصاً للرسالة مشتملا على خلاصة ما توصلت إليه من القول في المسائل و المطالب في الموضوع، وكذلك بعض النتائج العامة، فأقول وبالله التوفيق وله المنة والفضل:

١ - يدل على أهمية معرفة الناسخ والمنسوخ في الشريعة الإسلامية، وعلى فضيلة علمه: أن أهل العلم لم يجوزوا لمن لم يعرف الناسخ والمنسوخ أن يفتي. كما أنهم جعلوا معرفته من شروط الاجتهاد، وأن معرفته من الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً.

كما أن الاختلاف في اعتبار مسألة منسوخة أو عدم ذلك أحد أهم أسباب الاختلاف في المسائل الفقهية.

٢ - إن النسخ في اللغة يأتي بمعنى الانعدام، والمحو، والإبطال، والنقل والتحويل، والتبديل.

أما النسخ شرعاً فقد اختلف فيه الاصطلاحات والإطلاقات عند المتقدمين والمتأخرين. ولقد بدا لي أن أعرفه بأن النسخ: رفع حكم دليل أحد الوحيين، أو لفظ دليل الوحي المتلو، أو لفظه وحكمه معاً، بدليل من الوحيين، مع تراخيه عنه.

٣ - يفرق بين النسخ والتخصيص بفروق منها: أن النسخ لا بد فيه أن يكون الناسخ متراخياً عن المنسوخ، ومتأخراً عنه، بخلاف التخصيص.

ومنها: أن النسخ لا يدخل الأخبار ولا يقع فيها، ولا يكون إلا بدليل من الكتاب أو السنة، بخلاف التخصيص.

ومنها: أن النسخ يرفع حكم العام والخاص، أما التخصيص فلا يدخل في غير العام.

٤ - البداء يطلق في اللغة على الظهور بعد الخفاء، ويطلق على نشأة رأي جديد، لم يكن موجوداً من قبل. وكلا المعنيين يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم، وكلاهما محال على الله سبحانه وتعالى.

ويفرق بين البداء والنسخ: بأن في البداء يأمر الآمر، وهو لا يدري ما يؤول إليه الحال، بخلاف النسخ.

كما أن سبب النسخ لا يوجب إفساد الموجب لصحة الخطاب الأول، والبداء يكون سببه دالاً على إفساد الموجب لصحة الأمر الأول.

كما يفرق بينهما بأن النسخ يدل على قدرة الله سبحانه وتعالى، وأن له ملك السماوات والأرض، فله أن يأمر بما يشاء، ويقرر ما يشاء، ويمحو ما يشاء؛ لأنه المالك والمليك.

أما البداء فإن صاحبه إنما يأمر بخلاف أمره الأول لمصلحة أخطأه وجهله في الأمر الأول.

٥ - قد دل على مشروعية النسخ أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، كما دل عليه أدلة من العقل.

ولا خلاف في مشروعيته وجوازه عقلاً، ووقوعه شرعاً، إلا ما روي عن بعض اليهود إنكارهم للنسخ؛ حيث زعم بعضهم عدم جوازه لا عقلاً ولا شرعاً، وزعم بعضهم جوازه عقلاً لا شرعاً، وزعم بعضهم عكس ذلك.

ويرد على مزاعمهم: بان النسخ وجد في شريعة موسى عليه السلام؛ حيث إن الشحوم كانت مباحة لهم، وكذلك الاصطياد يوم السبت، ثم حرم ذلك عليهم.

وروي كذلك عن شرذمة من المسلمين إنكارهم للنسخ، لكنهم لم ينكروا نسخ الشرائع السابقة بشريعة الإسلام، بل أنكروا وقوع النسخ في الشريعة الإسلامية.

ويرد عليهم: بأن قولهم مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، كما أنه مخالف للواقع.

٦ - وقوع النسخ في الشريعة له حِكَم كثيرة، منها: الحفاظ على مصالح العباد، والتدرج في تشريع الأحكام، والرحمة بالعباد والتخفيف عنهم، وبيان كمال الشريعة الإسلامية وأنها تفي بحاجات الإنسانية في مرحلتها التي انتهت إليها، وأنها تصلح للأفراد والمجتمعات بجميع أشكالها وألوانها، وتصلح لكل زمان ومكان.

٧ - من شروط النسخ: أن يكون بدليل شرعي، وأن يكون المنسوخ حكماً شرعياً، وأن

لا يكون الحكم السابق مقيداً بوقت، وأن يكون الحكم في الناسخ متناقضاً لحكم المنسوخ بحيث لا يمكن العمل بهما جميعاً، وأن يكون الحكم المنسوخ متقدماً قبل ثبوت الحكم الناسخ، وأن يكون الناسخ منفصلاً عن المنسوخ ومتراخياً عنه.

٨ - النسخ الواقع في القرآن على ثلاثة أنواع: ما نُسخ تلاوته وحكمه معاً، وما نُسخ حكمه دون تلاوته، وما نُسخ تلاوته دون حكمه.

٩ - نسخ القرآن بالقرآن لا خلاف في جوازه ووقوعه بين من قال بجواز النسخ.

أما نسخ القرآن بالسنة ففيه قولان لأهل العلم: الجواز وعدمه. لكن الأظهر أنه لا مانع من نسخ القرآن بالسنة، وإن كان في وقوعه خلاف قوي.

١٠ - لا خلاف في جواز نسخ السنة المتواترة بالمتواترة، والآحادية بالمتواترة، والآحادية بالآحادية.

أما نسخ السنة المتواترة بالآحادية، فذهب الجمهور إلى عدم جوازه. وذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك ووقوعه، ويظهر رجحان هذا القول لقوة دليله.

١١ - يجوز نسخ السنة بالقرآن عند أكثر أهل العلم، وذهب بعض أهل العلم إلى عدم جوازه، وقول الجمهور أقوى وأرجح؛ لوقوع نسخ السنة بالقرآن في غير ما مسألة، وعدم وجود دليل واضح يمنع من ذلك.

١٢ - الأحكام الشرعية التكليفية يقع نسخها على أوجه مختلفة، فالفرض والواجب قد ينسخ من الوجوب إلى المنع، وقد ينسخ إلى الاستحباب، وقد ينسخ إلى الإباحة.

والمندوب والمستحب قد ينسخ من الاستحباب إلى الوجوب، وقد ينسخ إلى التحريم، وقد ينسخ إلى الإباحة.

والمباح قد ينسخ من الإباحة إلى التحريم، وقد ينسخ إلى الكراهة، وقد ينسخ إلى الوجوب.

والحرام قد ينسخ من التحريم إلى الاستحباب والندب، وقد ينسخ إلى الإباحة.

١٣ - النسخ قد يكون إلى بدل من حكم شرعي، وقد يكون إلى غير بدل، ثم النسخ إلى بدل قد يكون إلى مثله في التخفيف والتغليظ، وقد يكون إلى بدل أخف على نفس المكلف من الحكم السابق، وقد يكون إلى أغلظ وأثقل من الحكم السابق.

١٤ - لا يكون النسخ إلا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يكون إلا بدليل من الكتاب أو السنة، وهو قد انقطع بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -.

أما الإجماع فليس بناسخ؛ لأنه لا يصح إلا بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن الإجماع قد يكون دليلاً على النسخ.

ثم النسخ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يكون بعد العلم والعمل بالمنسوخ، وهو يجوز بلا خلاف، وقد يكون بعد العلم بالمنسوخ واعتقاد وجوبه، وقبل العمل به، أو قبل التمكن من العمل به، وهو يجوز عند جمهور أهل العلم، وهو الصحيح والأقوى لوجود ما يدل على وقوعه.

أما النسخ قبل العلم بالمنسوخ واعتقاد وجوبه فلا يجوز بلا خلاف.

١٥ - يدخل النسخ ويقع في الأمر والنهي- ولو بلفظ الخبر- الدالان على الأحكام الشرعية العملية من العبادات والمعاملات.

ولا يقع النسخ في أصول الاعتقاد، وأصول العبادات والمعاملات، وأمهات الأخلاق، ومدلولات الأخبار المحضة.

١٦ - لمعرفة النسخ طرق، منها: أن يكون في أحد النصين ما يدل على تعيين المتأخر منهما، سواء كان في اللفظ ما يصرح بذلك، أو يكون لفظ النص متضمناً التنبيه على النسخ.

ومنها: إجماع الأمة على أن هذا الحكم منسوخ، وأن ناسخه متأخر.

ومنها: أن يرد عن طريق صحيح عن أحد من الصحابة ما يصرح بتقدم أحد النصين على الآخر.

ومنها: أن ينقل ويثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم شيء، ثم يثبت عنه من فعله حكماً يخالف الحكم السابق.

ومنها: أن يعلم بالتاريخ تقدم أحد الدليلين على الآخر، فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم.

أما قول أحد الصحابة: هذا ناسخ وهذا منسوخ، فهو أحد طرق معرفة النسخ عند بعض أهل العلم، وليس هو من طرق معرفة النسخ عند الجمهور.

وليس من طرق معرفة النسخ أن يكون الراوي لأحد النصين أسلم بعد موت الراوي

للنص المعارض له، كما ليس من طرقه كون أحد الراويين أسلم قبل الآخر، أو أن يكون من أحداث الصحابة دون الراوي للنص الآخر، أو أن يكون أحد النصين قبل الآخر في المصحف.

كما ليس من طرق معرفته عند الجمهور كون أحد النصين موافقاً للبراءة الأصلية دون الآخر، وهو الأقوى والأرجح.

أما إذا روى الصحابي حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عمل أو أفتى على خلافه، فهو أحد طرق معرفة النسخ عند بعض أهل العلم، وليس هو من طرقه عند الجمهور، وهو الأقوى والأرجح لأن عمله على خلاف ما رواه محتمل عدة احتمالات، فلا يتعين النسخ.

كما أن عمل أهل المدينة على خلاف حكم شرعي لا يدل على نسخه عند الجمهور،

خلافاً للبعض؛ وذلك لأن عملهم على خلاف حكم ليس بإجماع حتى يكون دليلاً على النسخ، كما أنه ليس دليلاً آخر مما ينسخ به.

١٧ - لأهمية موضوع النسخ بدء فيه التأليف منذ زمن مبكر؛ ثم بعض أهل العلم ألف في ناسخ القرآن ومنسوخه، وبعضهم ألف في ناسخ الحديث ومنسوخه، وبعضهم ألف في كلتيهما.

وأول من ألف في ناسخ القرآن ومنسوخه قتادة بن دعامة السدوسي، ثم استمر فيه التأليف إلى العصر الحاضر.

أما أول من ألف في ناسخ الحديث ومنسوخه، فقيل إنه الزهري؛ حيث روي عنه أنه قال: (لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني). ثم ألف فيه كثير من أهل العلم، واستمر ذلك إلى العصر الحاضر.

<<  <  ج: ص:  >  >>