فعملوا إلا واحدًا منهم، فإنه قعد يتفكر في الكتاب فيقول: أترى كتبه بمداد أو بحبر؟ أترى كتبه قائما أو قاعدا؟ فما زال يتفكر حتى قدم الملك ولم يعمل ما أمره به شيئا، فأحسن جوائز الكل وقتل هذا.
[هجر القران أنواع]
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.
والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب، وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}[الفرقان: ٣٠] وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
[وقفات]
خرج عمر يعس بالمدينة ذات ليلة، فمر بدار رجلٍ من المسلمين، فوافقه قائما يصلي، فوقع يستمع قراءته فقرأ "والطور" حتى بلغ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (٨)} [الطور: ٧ - ٨] قال: قسم ورب الكعبة حق، فنزل عن حماره واستند إلى حائط، فمكث مليًا، ثم رجع إلى منزله، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه - رضي الله عنه -.
عمر - رضي الله عنه - سمع السورة قبل ذلك، وقرأها وصلى بها، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بها المغرب، وعمر يعلم، ويتأسى، ولكنها في تلك الليلة صادفت منه قلبا مكشوفا وحسا مفتوحا، فنفذت إليه وفعلت به هذا الذي فعلت، حين وصلت إليه بثقلها وعنفها وحقيقتها اللدنية المباشرة، التي تصل إلى القلوب في لحظات خاصة، فتتخللها وتتعمقها، في لمسة مباشرة كهذه اللمسة، تلقى فيها القلب الآية من مصدرها الأولى كما تلقاها قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطاقها لأنه تهيأ لتلقيها، فأما غيره فيقع لهم شيء مما وقع لعمر - رضي الله عنه - حين تنفذ إليهم بقوة حقيقتها الأولى (١).