فقالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة، تحميه وتمنعهم منه إذا أرادوه بشر.
فقال: دعوني فإن الله سيمنعني ويحميني، ثم ذهب إلى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى، وقريش جلوس حول الكعبة، فوقف عند المقام وقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم رافعا بها صوته {الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤)} [الرحمن١ - ٤] ومضى يقرأها، فتأملته قريش، وقالت: ماذا قال ابن أم عبد؟ تبًّا له، إنه يتلو بعض ما جاء به محمد، وقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه والدم يسيل منه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك.
فقال: والله ما كان أعداء الله أهون في عيني منهم الآن وإن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا: لا، حسبك لقد أسمعتهم ما يكرهون (١).
[الشيخ محمد فرغلي]
يقول الشيخ حسن البنا عن الشيخ محمد فرغلي: حين تم بناء المسجد الذي طالب به عمال الشركة بالجباسات بالإسماعيلية انتدب للإمامة والتدريس فضيلة الأخ محمد فرغلي، المدرس بمعهد حراء حينذاك، وصل الأستاذ فرغلي وتسلم المسجد، وأعد له سكن خاص بجواره، ووصل روحه القوية بأرواح هؤلاء العمال الطيبين، فلم تمض عدة أسابيع وجيزة حتى ارتفع مستواهم الفكري والنفساني والاجتماعي ارتفاعا عجيبا، لقد أدركوا قيمة أنفسهم، وعرفوا سمو وظيفتهم في الحياة، وقدروا فضل إنسانيتهم، فنزع من قلوبهم الخوف والذل والضعف والوهن، واعتزوا بالإيمان بالله وبإدراك وظيفتهم الإنسانية في هذه الحياة؛ خلافة الله في أرضه، فجدوا في عملهم، عفوا عما ليس لهم، فلم تأسرهم المطامع التافهة، ولم تقيدهم الشهوات الحقيرة، وصار أحدهم يقف أمام رئيسه عالي الرأس في أدب، شامخ الأنف في وقار، يحدثه في حجة ومنطق، لا يقول ولا يقبل منه كلمة نابية، أو لفظة جافية، أو مظهرًا من مظاهر التحقير والاستصغار، كما كان ذلك شأنهم من قبل، تجمعوا على الأخوة، واتحدوا على الحب والجد والأمانة، ويظهر أن هذه السياسة لم تعجب الرؤساء وقرروا أنه إذا استمر الحال على ذلك ستكون السلطة كلها لهذا الشيخ، ولن يستطيع أحد بعد ذلك أن يكبح جماحه وجماح العمال.