فيسرني أن أكون آخرهم، وإلا فوفر على نفسك المساعي وأنت مشكور. غير أن مدير السجن الذي عرف إباء الرجل ومثالية إيثاره اغتنم فرصة إخلائه الغرفة في لحظات الفسحة اليومية فحمل مدفأة مكتبه الخاص وتركها مشتعلة في زنزانة الهضيبي الذي ما كاد يدخل الزنزانة ويفاجأ بنعمة الدفء ثم يلمح المدفأة في زاوية من زنزانته حتى أقبل على باب الزنزانة من الداخل يوسعه طرقا بكلتا يديه، إلى أن سمع الحارس فأسرع يفتح باب الزنزانة، ليفاجأ بنزيلها قد حمل المدفأة بيده، وقذف بها إلى الخارج ثم أغلق الباب على نفسه دون ضوضاء.
وأدرك زبانية الحكام أن الهضيبي الذي حسبوه فانيا سريع الاستسلام، ما هو إلا معين إباء وجلد تسري جوارحه شمما ومنعة في نفوس المسلمين فيثبت الواهن، ويضاعف من عزيمة الثابت.
[دعهم لا يرون منا إلا البشاشة]
وقد تفتقت مكايد الطغيان عن حيلة جديدة، نقلوا بها الأستاذ الهضيبي إلى زنزانة ملحقة بمكاتب الإدارة تفصله قرابة ميل عن مجمع زنزانات الإخوان، بحيث لا يرونه إلا في ساعة الفسحة من هذا البعد، لا يكلمهم ولا يكلمونه.
ولفت أنظار الإخوان أن المرشد يقضي ساعة فسحته في الحديقة المواجهة لمكتب المدير ناشطا في القيام بتمرينات رياضية وهو بملابس ناصعة الألوان لعله كان يتوقر عنها وهو في شبابه.
ولما سأله البعض عن غرابة هذه الحركات الرياضية، وهذه الملابس الزاهية، على مقامه وسنة، قال: دعهم لا يرون منا إلا البشاشة وارتفاع الروح المعنوية، حتى يتحققوا أن سهامهم طاشت ولم يبلغوا منا ما يريدون.
إن الناس يذلون أنفسهم ويقبلون الدنية في دينهم ودنياهم، إما خوفا من نقص في الأرزاق أو في الآجال والغريب أن الله قطع سلطان البشر عن الآجال والأرزاق جميعا.