الذي ترونه لا ينام الليل، فما أن لامست كلمتهم هذه مسمعه حتى قال: إني عند الناس على خلاف ما أنا عليه عند الله، ولن أتوسد فراشا بعد اليوم في ليل حتى ألقى الله، ثم دأب منذ ذلك اليوم على قيام الليل كله، فكان إذا أرخى الظلام سدوله على الكون، وأسلمت الجنوب إلى المضاجع، قام فلبس أحسن ثيابه، وسرح لحيته، وتطيب، وتزين، ثم يصف في محرابه ويقطع ليله قانتا، أو منحنيا بصلبه على أجزاء القرآن، أو رافعا يده بالضراعة، فلربما قرأ القرآن كله في ركعة واحدة، ولربما قام الليل كله بآية واحدة، ولقد روي أنه قام الليل كله وهو يردد قوله تعالى {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}[القمر: ٤٦] وهو يبكي من خشية الله (١).
احرص على قراءة القرآن يوميا، واجتهد في تدبر الآيات وكأنها قد نزلت عليك، وستجد السعادة في معايشة كلام الله.
[٢ - علو الهمة في الجهاد]
في أعقاب غزوة بدر أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - من آي القرآن ما يرفع شأن المجاهدين، ويفضلهم على القاعدين لينشط المجاهد إلى الجهاد، ويأنف القاعد من القعود، فأثر ذلك في نفس ابن أم مكتوم، وعز عليه أن يحرم من هذا الفضل وقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت، ثم سأل الله بقلب خاشع أن ينزل قرآنا في شأنه وشأن أمثاله ممن تعوقهم عاهاتهم عن الجهاد، وجعل يدعو في ضراعة: اللهم أنزل عذري .. اللهم أنزل عذري، فما أسرع أن استجاب الله عز وجل دعاءه!
حدث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - كاتب وحي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كنت إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغشيته السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ثم سري عنه فقال:"اكتب يا زيد" فكتبت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[النساء: ٩٥] فقام ابن أم مكتوم وقال: يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ فما انقضى كلامه حتى غشيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها ما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عنه، فقال: اقرأ ما كتبته يا