اعتذرت له، فقال حافظ في هدوء أيضا: وهذه غلطة أخرى يا مسيو سولنت فأنت في بلد الملك فؤاد، وكان أدب الضيافة وعرفان الجميل يفرضان عليك ألا تقول مثل هذا الكلام وأنا لا أسمح لك أن تذكر اسمه إلا بكل أدب واحترام، فتركه وأخذ يتمشى في البهو الفسيح ويداه في جيب بنطلونه، ووضع حافظ عدته وجلس على كرسي واتكأ على منضدة وسادت فترة سكوت لا يتخللها إلا وقع أقدام المسيو السائر الحائر، وبعد قليل تقدم من حافظ وقال له: افرض أنني لم أعتذر لك فماذا تفعل؟ فقال: الأمر هين سأكتب تقريرا إلى قنصلكم هنا وإلى سفارتكم أولا ثم أترقب كل قادم من أعضاء هذا المجلس فأشكو إليه، فإذا لم أصل إلى حقي بعد ذلك استطعت أن أهينك في الشارع وعلى ملأ من الناس وأكون بذلك قد وصلت إلى ما أريد ولا تنتظر أن أشكوك إلى الحكومة المصرية التي قيدتموها بسلاسل الامتيازات الأجنبية الظالمة، ولكني لن أهدأ حتى أصل إلى حقي بأي طريقة، فقال الرجل: يظهر أنني أتكلم مع أفوكاتو لا نجار! ألا تعلم أنني كبير المهندسين في قناة السويس فكيف تتصور أني أعتذر لك؟ فقال حافظ: وألا تعلم أن قناة السويس في وطني لا في وطنك وأن مدة استيلائكم عليها مؤقتة وستنتهي ثم تعود إلينا فتكون أنت وأمثالك موظفين عندنا؟ فكيف تتصور أن أدع حقي لك؟ ... وانصرف الرجل إلى مشيته الأولى.
وبعد فترة عاد مرة ثانية وعلى وجهه أمارات الثائر وطرق المنضدة بيده في عنف مرات وهو يقول: أعتذر يا حافظ سحبت كلمتي، فقام الأخ حافظ بكل هدوء وقال: متشكر يا مسيو سولنت. وزاول عمله حتى أتمه.
وبعد الانتهاء أعطاه المسيو سولنت ١٥٠ قرشا فأخذ منها ١٣٠ قرشا ورد له العشرين.
فقال له: خذها بقشيشا، فقال: لا، لا حتى لا آخذ أكثر من حقي فكون حرامي، فدهش الرجل وقال: إني مستغرب لماذا لا يكون كل الصناع أولاد العرب مثلك؟ أنت "فاميلي محمد" فقال حافظ: يا مسيو سولنت كل المسلمين "فاميلي محمد" ولكن الكثير منهم عاشروا الخواجات وقلدوهم ففسدت أخلاقهم، فلم يرد الرجل بأكثر من أن مد يده مصافحا قائلا: متشكر، متشكر كتر خيرك وفيها الإذن بالانصراف (١).