ساعتين ثم أحضروا الولد مرة أخرى وبدأوا بتعذيبه أمامي، فبطحوه أرضًا، وركبوا فوقه وخنقوه، ومن شدة التعذيب على الولد الضعيف الصغير فوجئت به يثور ويقفز فجأة ويطرح الرجال الأربعة على الأرض -وهذا من شدة التعذيب يعني حرارة الروح- كان الولد يموت تحتهم، كان يختنق، بعدها أخذوه مرة أخرى من عندي (١).
ثبات ووفاء
ظل الأخ محمد الصوابي الديب متخفيًا عن أعين الظالمين بعد أن أزهقت أرواح المجاهدين منهم تحت التعذيب حتى شهر ديسمبر عام ١٩٥٤ م حين ذهب الساعة الثالثة ظهرًا، وطرق باب منزل العلامة الشيخ حسنين مخلوف -مفتي الديار المصرية- الذي يقع في شارع نجيب بكوبري القبة بالقاهرة.
وحين فتح الخادم الباب عاد إلى الشيخ؛ ليخبره عن الطارق فيقول: إنه شاب طليق اللحية، رث الثياب، ويريد مقابلتك.
يقول الشيخ مخلوف: تعجبت من ذلك وظننت أنه عابر سبيل .. دخل الشاب المنزل، ولم أقابله في البداية، بل أعد له الخادم طعام الغداء فأكله بشهية كأنه لم يأكل منذ مدة طويلة .. بعد الغداء ظننت أنه سينصرف، إلا أنه أصر على مقابلتي وألح في ذلك، فذهبت إليه وما إن رأيته حتى ظننت أنه سيطلب صدقة، فقد كان رث الثياب تبدو عليه شدة التعب، بدأ حديثه بأن عرفني على نفسه: محمد الصوابي الديب طالب بكلية الشريعة بجامعة الأزهر .. ولقد اهتز بدني وأصبت برعشة عندما قال لي:"إنه كان من متطوعي الإخوان المسلمين في حرب فلسطين والقناة" فقد كان الإخوان المسلمون في ذلك الوقت -عام ١٩٥٤ م- في أوج محنتهم، وكانت كلمة الإخوان المسلمين تترادف معها كلمات الاعتقال، السجن، التعذيب، المحاكمات .. إلخ.
نظر الشاب إليَّ في هدوء -والحديث للشيخ مخلوف- وقال بصوت منخفض ولكنه قوي: أنا في محنة وأحتاج إليك، فأنا مطلوب القبض عليّ، وقد مكثت أكثر من شهر هاربًا متخفيًا في المقابر نهارًا، ثم أخرج في الليل لأقتات الطعام، لقد كرهت الحياة بين الموتى وأريد أن أعيش بين الأحياء فهل تقبلني؟