فقال الرجل: اسكت يا أعمى يا مغفل، هذا أمر لا يعنيك.
ورجعا إلى السفينة في ساعة متأخرة من الليل، وبقى الشاب ساهرًا ليلته تلك، مشتغل الفكر فيما رآه، قد استحكم سهم الشيطان من قلبه، وامتلكت النظرة زمام فؤاده، فما إن بزغ الفجر وأصبح الصباح حتى كان أول نازل من السفينة، وما في باله إلا أن ينظر فقط، ولا شيء غير أن ينظر، وذهب إلى ذلك المكان، فما أن نظر نظرته الأولى وأتبعها الثانية، حتى فتح الباب وقضى اليوم كله هناك، واليوم الذي بعده كذلك، فافتقده ربان السفينة وسأله عنه: أين المؤذن؟ أين إمامنا في الصلاة؟ أين ذلك الشاب الصالح، فلم يجبه من البحارة أحد، فأمرهم أن يتفرقوا للبحث عنه فوصل إلى علم الربان ممن ذهب به إلى ذلك المكان فأحضره وزجره وقال له: ألا تتقي الله؟ ألا تخشى عقابه؟ عجل اذهب فأحضره، فذهب إليه مرة دون مرة ولكن دون جدوى، فلم يستطع إحضاره لأنه كان يرفض ويأبى الرجوع معهم، فلم يكن من قائد السفينة إلا أن أمر عدة رجال أن يحضروه قسرًا، فسحبوه بالقوة وحملوه إلى السفينة.
وأبحرت السفينة راجعة إلى البلاد ومضى البحارة إلى أعمالهم، وأخذ ذلك الشاب في زاوية من السفينة يبكي ويئن حتى لتكاد نياط قلبه أن تتقطع من شدة البكاء، ويقدمون له الطعام فلا يأكل، وبقى على حاله البائسة هذه بضعة أيام، وفي ليلة من الليالي ازداد بكاؤه ونحيبه، ولم يستطع أحد من أهل السفينة أن ينام، فجاءه ربان السفينة وقال له: يا هذا اتق الله، ماذا أصابك؟ لقد أقلقنا أنينك فما نستطيع أن ننام، ويحك ما الذي بدل حالك؟ ويلك ما الذي دهاك؟
فرد عليه الشاب وهو يتحسر: دعني فإنك لا تدري ما الذي أصابني؟
فقال الربان: وما الذي أصابك؟ عند ذلك كشف الشاب عن عورته، وإذا الدود يتساقط من سوأته، فأنزعج ربان السفينة وارتعش لما رأى وقال: أعوذ بالله من هذا، وقام عنه الربان، وقبيل الفجر قام أهل السفينة على صيحة مدوية أيقظتهم وذهبوا إلى مصدرها فوجدوا ذلك الشاب قد مات وهو ممسك خشب السفينة بأسنانه، استرجع القوم وسألوا الله حسن الخاتمة، وبقيت قصة هذا الشاب عبرة لمن يعتبر.