للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ مِنْ وُقُوعِ الْكُفْرِ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي " فَحَنِثَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَلَوْ قَالَ: " إنْ فَعَلْتُهُ فَالطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ": فَحَنِثَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَلَوْ قَالَ: " إنْ فَعَلْتُهُ فَالطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " فَحَنِثَ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، وَلَا تُفَرِّقُ اللُّغَةُ وَلَا الشَّرِيعَةُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَأَنْ وَالْفِعْلِ.

فَإِنْ قُلْتُمْ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ الْتَزَمَ فِي الْأَوَّلِ التَّطْلِيقَ وَهُوَ فِعْلُهُ، وَفِي الثَّانِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَهُوَ أَثَرُ فِعْلِهِ.

قِيلَ: هَذَا الْفَرْقُ الَّذِي تَخَيَّلْتُمُوهُ لَا يُجْدِي شَيْئًا، فَإِنَّ الطَّلَاقَ هُوَ التَّطْلِيقُ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا أَثَرُهُ كَوْنُهَا طَالِقًا، وَهَذَا غَيْرُ الطَّلَاقِ، فَهَهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ مُرَتَّبَةٍ:

الْتِزَامُ التَّطْلِيقِ، وَهَذَا غَيْرُ الطَّلَاقِ بِلَا شَكٍّ.

وَالثَّانِي: إيقَاعُ التَّطْلِيقِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ بِعَيْنِهِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: ٢٢٩] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ» .

الثَّالِثُ: صَيْرُورَةُ الْمَرْأَةِ طَالِقًا وَبَيْنُونَتُهَا، فَالْقَائِلُ " إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ " لَمْ يُرِدْ هَذَا الثَّالِثَ قَطْعًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ إلَيْهِ وَلَا مِنْ فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إلَى الشَّارِعِ، وَالْمُكَلَّفُ إنَّمَا يَلْزَمُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدِرَتِهِ وَهُوَ إنْشَاءُ الطَّلَاقِ، فَلَا فَرْقَ أَصْلًا بَيْنَ هَذَا اللَّفْظِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: " فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ " فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَهُوَ عُدُولٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: " فَالطَّلَاقُ لَازِمٌ لِي " إنَّمَا هُوَ فِعْلُهُ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا طَالِقًا فَهَذَا وَصْفُهَا، فَلَيْسَ هُوَ لَازِمًا لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ لَهَا. فَلْيَنْظُرْ اللَّبِيبُ الْمُنْصِفُ الَّذِي الْعِلْمُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ التَّقْلِيدِ إلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الْمَحْضِ وَاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ لِيَخْتَرْ لِنَفْسِهِ مَا شَاءَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

ثُمَّ نَاقَضْتُمْ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " إنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ أَوْ وَقَعَ مِنِّي يَمِينٌ بِطَلَاقِكِ " أَوْ لَمْ يَقُلْ بِطَلَاقِكِ بَلْ قَالَ: " مَتَى حَلَفْتُ أَوْ أَوْقَعْتُ يَمِينًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " ثُمَّ قَالَ: " إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " حَنِثَ وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ وَأَوْقَعَ الْيَمِينَ، فَأَدْخَلْتُمْ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ فِي اسْمِ الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ فِي كَلَامِ الْمُكَلَّفِ، وَلَمْ تُدْخِلُوهُ فِي اسْمِ الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ اتَّبَعْتُمْ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسَ وَالْإِجْمَاعَ، وَقَدْ أَرَيْنَاكُمْ مُخَالَفَتَكُمْ لِصَرِيحِ الْقِيَاسِ مُخَالَفَةً لَا يُمْكِنُكُمْ الِانْفِكَاكُ عَنْهَا بِوَجْهٍ. وَمُخَالَفَتُكُمْ لِلْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَأَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَظَهَرَ عِنْدَ الْمُنْصِفِينَ أَنَّا أَوْلَى بِالْقِيَاسِ وَالِاتِّبَاعِ مِنْكُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>