بِكُلِّ طَرِيقٍ وَلَوْ قَصُرَتْ مُدَّتُهُ، وَأَمَّا تَفْرِيقُكُمْ بِكَثْرَةِ الضَّرَرِ فِي الْعَقَارِ وَقِلَّتِهِ فِي الْمَنْقُولِ فَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّ الضَّرَرَ فِي الْعَقَارِ يَكْثُرُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَاتِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ رَفْعُهُ بِالْقِسْمَةِ، وَأَمَّا الضَّرَرُ فِي الْمَنْقُولِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بِقِسْمَتِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا مُنْتَقَضٌ بِالْأَرْضِ الْوَاسِعَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتُمْ. فَصْلٌ [رَأْيُ الْقَائِلِينَ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ]
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ: بَلْ الضَّرَرُ الَّذِي قَصَدَ الشَّارِعُ رَفْعُهُ هُوَ ضَرَرُ سُوءِ الْجِوَارِ وَالشَّرِكَةِ فِي الْعَقَارِ وَالْأَرْضِ؛ فَإِنَّ الْجَارَ قَدْ يُسِيءُ الْجِوَارَ غَالِبًا أَوْ كَثِيرًا، فَيُعَلِّي الْجِدَارَ، وَيَتْبَعُ الْعِثَارَ، وَيَمْنَعُ الضَّوْءَ، وَيُشْرِفُ عَلَى الْعَوْرَةِ، وَيَطَّلِعُ عَلَى الْعَثْرَةِ، وَيُؤْذِي جَارَهُ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى، وَلَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، وَهَذَا مِمَّا يَشْهَدُ بِهِ الْوَاقِعُ، وَأَيْضًا فَالْجَارُ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ وَالْحَقِّ وَالذِّمَامِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ فِي كِتَابِهِ، وَوَصَّى بِهِ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَايَةَ الْوَصِيَّةِ، وَعَلَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بِإِكْرَامِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ، وَهُوَ الذِّمِّيُّ الْأَجْنَبِيُّ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْأَجْنَبِيُّ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْقَرِيبُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الْقَرَابَةِ؛ وَمِثْلُ هَذَا وَلَوْ لَمْ يُرِدْ فِي الشَّرِيكِ فَأَدْنَى الْمَرَاتِبِ مُسَاوَاتُهُ بِهِ فِيمَا يَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ، لَا سِيَّمَا وَالْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ ثَبَتَ فِي الشَّرِكَةِ لِإِفْضَائِهَا إلَى ضَرَرِ الْمُجَاوَرَةِ فَإِنَّهُمَا إذَا اقْتَسَمَا تَجَاوَرَا.
قَالُوا: وَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَصَّتْ بِالْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُولَاتِ؛ إذْ الْمَنْقُولَاتُ لَا تَتَأَتَّى فِيهَا الْمُجَاوَرَةُ، فَإِذَا ثَبَتَتْ فِي الشَّرِكَةِ فِي الْعَقَارِ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُجَاوَرَةِ فَحَقِيقَةُ الْمُجَاوَرَةِ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ فِيهَا.
قَالُوا: وَهَذَا مَعْقُولُ النُّصُوصِ لَوْ لَمْ تَرُدَّ بِالثُّبُوتِ فِيهَا، فَكَيْفَ وَقَدْ صُرِّحَتْ بِالثُّبُوتِ فِيهَا أَعْظَمَ مِنْ تَصْرِيحِهَا بِالثُّبُوتِ لِلشَّرِيكِ؟ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ: جَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبَيْ، فَانْطَلَقْت مَعَهُ إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: أَلَا تَأْمُرُ هَذَا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنِّي بَيْتِي الَّذِي فِي دَارِهِ، فَقَالَ: لَا أَزِيدُهُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةٍ مُنَجَّمَةٍ، فَقَالَ: قَدْ أُعْطِيت خَمْسَمِائَةٍ نَقْدًا فَمَنَعْته، وَلَوْلَا أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» مَا بِعْتُك، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ أَيْضًا عَنْ أَبِيهِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْد الثَّقَفِيِّ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرْضٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا قِسْمٌ وَلَا شِرْكٌ إلَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute