للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفَسْخَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ، وَالْكَذِبَ وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَإِبَاحَةَ الْكُفْرِ، وَهَذِهِ الْحِيَلُ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُنْسَبَ هَذِهِ الْحِيَلُ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَمَنْ نَسَبَهَا إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ جَاهِلٌ بِأُصُولِهِمْ وَمَقَادِيرِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ هَذِهِ الْحِيَلِ قَدْ تَنْفُذُ عَلَى أُصُولِ إمَامٍ بِحَيْثُ إذَا فَعَلَهَا الْمُتَحَيِّلُ نَفَذَ حُكْمُهَا عِنْدَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ غَيْرُ الْإِذْنِ فِيهَا وَإِبَاحَتِهَا وَتَعْلِيمِهَا فَإِنَّ إبَاحَتَهَا شَيْءٌ وَنُفُوذَهَا إذَا فُعِلَتْ شَيْءٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفَقِيهِ وَالْمُفْتِي لَا يُبْطِلُهَا أَنْ يُبِيحَهَا وَيَأْذَنَ فِيهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُقُودِ يُحَرِّمُهَا الْفَقِيهُ ثُمَّ يُنْفِذُهَا وَلَا يُبْطِلُهَا، وَلَكِنَّ الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ تَحْرِيمُهَا وَإِبْطَالُهَا وَعَدَمُ تَنْفِيذِهَا، وَمُقَابَلَةُ أَرْبَابِهَا بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِمْ مُوَافَقَةً لِشَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.

[لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْحِيَلِ إلَى إمَامٍ] : وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ لَا تَجُوزُ أَنْ تُنْسَبَ إلَى إمَامٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي إمَامَتِهِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْقَدْحَ فِي الْأُمَّةِ حَيْثُ ائْتَمَّتْ بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَوْ فَرَضَ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ بَعْضُ هَذِهِ الْحِيَلِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْحِكَايَةُ بَاطِلَةً، أَوْ يَكُونَ الْحَاكِي لَمْ يَضْبِطْ لَفْظَهُ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَتْوَاهُ بِنُفُوذِهَا بِفَتْوَاهُ بِإِبَاحَتِهَا مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَوْ فُرِضَ وُقُوعُهَا مِنْهُ فِي وَقْتٍ مَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ الْأَمْرَ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي الْإِمَامِ وَفِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْتَمِّينَ بِهِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِذْنُ فِي التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ، إلَّا الْمُكْرَهَ إذَا اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ.

ثُمَّ إنَّ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَشَدُّ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَأْذَنُونَ فِي كَلِمَاتٍ وَأَفْعَالٍ دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، وَيَقُولُونَ: إنَّهَا كُفْرٌ، حَتَّى قَالُوا: لَوْ قَالَ الْكَافِرُ لِرَجُلٍ: " إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسْلِمَ " فَقَالَ لَهُ: " اصْبِرْ سَاعَةً " فَقَدْ كَفَرَ، فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ بِإِنْشَاءِ الْكُفْرِ؟ وَقَالُوا: لَوْ قَالَ: " مُسَيْجِدٌ " أَوْ صَغَّرَ لَفْظَ الْمُصْحَفِ كَفَرَ.

فَعَلِمْت أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يُفْتُونَ بِالْحِيَلِ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ أَوْ حَرَامٌ لَيْسُوا مُقْتَدِينَ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَأَنَّ الْأَئِمَّةَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ وَأَتْقَى لَهُ مِنْ أَنْ يُفْتُوا بِهَذِهِ الْحِيَلِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد فِي مَسَائِلِهِ: سَمِعْت أَحْمَدَ وَذَكَرَ أَصْحَابَ الْحِيَلِ: يَحْتَالُونَ لِنَقْضِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ الصَّانِعِ: هَذِهِ الْحِيَلُ الَّتِي وَضَعُوهَا عَمَدُوا إلَى السُّنَنِ وَاحْتَالُوا لِنَقْضِهَا، وَالشَّيْءُ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ إنَّهُ حَرَامٌ احْتَالُوا فِيهِ حَتَّى أَحَلُّوهُ، قَالُوا: الرَّهْنُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُسْتَعْمَلَ، ثُمَّ قَالُوا: يَحْتَالُ لَهُ حَتَّى يُسْتَعْمَلَ، فَكَيْفَ يَحِلُّ بِحِيلَةٍ مَا حَرَّمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>