١٨٦٦ - وعن حارثةَ بنِ وهب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تصدَّقوا فإِنَّه يأتي عليكم زمانٌ يمشي الرَّجلُ بصدَقتِه فلا يجدُ مَنْ يقبلُها، يقولُ الرَّجلُ: لو جئتَ بها بالأمس لقبِلتُها، فأمَّا اليوْمَ فلا حاجةَ لي بها)). متفق عليه.
١٨٦٧ - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رجلٌ: يارسولَ الله! أيُّ الصَّدَقةِ أعظمُ أجرًا؟ قال:((أنْ تصدَّقَ وأنتَ صحيحٌ شحيحٌ، تخشى الفَقْرَ، وتأمُلُ الغِنى، ولاتُمهِلْ؛ حتى إذا بلغتِ الحُلقومَ قلتَ: لفُلانٍ كذا، ولفُلانٍ كذا وقدْ كانَ لفُلانٍ)). متفق عليه.
ــ
استحلال المحارم جامع لجميع أنواع الظلم من الكفر والمعاصى، وعطفه علي سفك الدماء من عطف العام علي الخاص عكس الأول. وإنما كان الشح سبب سفك الدماء واستحلال المحارم؛ لأن في بذل الأموال ومواساة الإخوان التحاب والتواصل، وفي الإمساك والشح التهاجر والتقاطع، وذلك يؤدى إلي التشاجر والتغاور من سفك الدماء، واستباحة المحارم، فظهر منها أن السياق وارد في الشح، وذكر الظلم توطئة وتمهيدًا لذكره، فكان إيراد هذا الحديث في هذا الباب أحرى وأولي من ذكره في باب الظلم.
الحديت الثامن عن حارثة: قوله: ((يأتى عليكم زمان)) الخطاب لجنس الأمة، والمراد بعضهم، كما في قوله تعالي:{ويقول الإنسان أإذا مامت لسوف أخرج حيَّا}، ((الكشاف)) لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم، صح إسناده إلي جميعهم، كما يقولون: بنو فلان قتلوا فلانًا، وإنما القاتل رجل منهم. ولعل ذلك الزمان زمن ظهور أشراط الساعة، كما ورد في الصحيح:((لاتقوم الساعة حتى يكثر المال فيفيض حتى يخرج الرجل زكاة ماله فلا يجد أحدًا يقبلها منه)).
الحديت التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وأنت صحيح شحيح)) أي تصدق في حال صحتك، واختصاص المال بك، وتشح نفسك بأن تقول: لا تتلف مالك كيلا تصير فقيرًا؛ فإن الصدقة في هذه الحالة أشد مراغمة للنفس. و ((فلان)) كناية عن الموصى له. وقوله:((ولا تمهل)) عطف علي ((تصدق)) وكلاهما خبر مبتدأ محذوف، أي أفضل الصدقة أن تتصدق حال حياتك، وصحتك مع احتياجك إليه، واختصاصك به، لا في حال سقمك، وسياق موتك، لأن المال حينئذ خرج منك، وتعلق بغيرك. ويشهد لهذا التأويل حديث أبي سعيد في الفصل الثانى من هذا الباب ((لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق بمائة عند موته)).