قطُّ إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملكٌ نزل إلي الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته)) رواه مسلم.
ــ
أمر غريب، وقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفع رأسه ليستعمله أحسن مما استغربه جبريل ثم أخبر عنه.
قوله:((بنورين)) ((قض)): سماهما نورين، لأن كلا منهما يكون لصاحبه نور يسعى أماه، ولأنه يرشده ويهديه بالتأمل فيه إلي الطريق القويم، والمنهج المستقيم.
قوله:((لن تقرأ بحرف)) ((تو)): الباء في قوله: ((بحرف)) زائدة، كقولك: أخذت بزمام الناقة، وأخذت زمامها. ويجوز أن يكون لانزلاق القراءة به، وأراد بالحرف- والله أعلم- الطرف منها، فإن حرف الشيء طرفه، وكني به عن كل جملة مستقلة بنفسها، أي أعطيت ما اشتملت عليه تلك الجملة من المسألة كقوله:{اهدنا الصراط المستقيم} وكقوله: ((غفرانك)) وكقوله: {ربنا لاتؤاخذنا} وكقوله: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا} ونظائره. ويكون التأويل فيما شذ من هذا القبيل من حمد وثناء أن يعطي ثوابه.
وأقول: يمكن أن يقال: إن ((قرأ)) ها هنا مضمن معني تحري واستعان، أي من اجتهد في الطلب، واستعان بهما في القراءة أعطي ما تحرى بهما. وقوله:((إلا أعطيه)) حال، والمستفتي من قدر، أي مستعيناً بهما علي قضاء ما يسنح من الحوائج كما يفعله الناس إلا أعطي، أو يقدر صفة، أي لم يقرأ حرفاً منها مشتملاً علي دعاء وسؤال إلا أعطيه. أما الحمد والثناء والتمجيد فيعطي ثوابها، وأما الدعاء والسؤال، فيسعف بمطلوبه، ويستجاب له، فيوافق هذا التأويل حديث أبي هريرة ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل)).
وتحرير معنى الدعاء في الفاتحة، هو أن المطلوب فيها الهداية المشتملة علي النعمة المطلقة، فيتناول نعمة الدارين، ظاهرها وباطنها، جليلها ودقيقها، حتى لا يشذ منها شيء. وعلي التوقي من غضب الله وسخطه مطلقاً، دنيا وعقبى، ومن جميع الأخلاق الذميمة، والضلالات المتنوعة، وما يعرجه عن الطريق المستقيم. وعلي هذا خاتمة سورة البقرة فإن قوله:{آمن الرسول - إلي قول - قالوا سمعنا} اشتمل علي معني التصديق والاعتقاد. ومنه إلي قوله:{ربنا لا تؤاخذنا} علي بيان الانقياد بالسمع والطاعة لما أمر الله تعالي به، ونهي