قوله:((وما ترددت عن شيء)) ((قض)): التردد تعارض الرأيين، وترادف الخاطرين، وهو وإن كان محالا في حقه تعالي إلا أنه أسند إليه باعتبار غايته ومنتهاه الذي هو التوقف والتإني في الأمر، كذلك سائر ما يسند إلي الله تعالي من صفات المخلوقين كالغضب والحياء والمكر، فالمعنى: ما أخرت وما توقفت توقف المتردد في أمر أنا فاعله إلا في قبض نفس عبدي المؤمن، أتوقف فيه حتى يسهل عليه، ويمل قلبه إليه شوقا إلي أن ينخرط في سلك المقربين، ويتبوأ في أعلي عليين.
وأقول: تفسير الولي علي ما نقلناه يستلزم المحبة، وأن يكون الولي محبوبا، وإلي المحبة ألإشارة بقوله:((حتى أحبه)) وإلي معنى تولي الأمور لمح قوله: ((فكنت سمعه الذي يسمع به)) إلي آخر الفصل. وقوله ((أحب إلي مما افترضت عليه)) يقتضي أن تكون وسائل التقرب كثيرة، وأحبها إلي الله تعالي أداء الفرائض، فتندرج فيها النوافل. وقوله:((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل)) إلي آخره بيان أن حكم بعض المفضل عليه الذي هو النافلة بهذه المثابة، فما الظن بالمفضل الذي هو الفرائض؟ فالتقرب المذكور في هذا الحديث وما رتب عليه من قوله:((فكنت سمعه)) إلي آخره تفسير للمبهم، وتفصيل للمجمل في الحديث السابق. قال فيه:((من تقرب إلي شبرًا)) ولم يبين المتقرب به، وفسر هنا بأداء الفرائض والنوافل، وقال هناك:((تقربت إليه ذراعا)) ولم يبين بماذا تقرب، فبين هنا بقوله:((فكنت سمعه)) دلالة علي التأييد، والتوفيق، وتسهيل سلوك الطريق المستقيم، وإليه يلمح ترتب قوله:((اهدنا الصراط المستقيم)) إلي آخره علي قوله: ((إياك نعبد وإياك نستعين))، فلما بنى افتتاح الكلام علي ذكر الولاية والمحبة تكرما وتفضلا، ونبه أنه تعالي لا يحوج وليه إلي انتقام من يعاديه، بل هو بذاته ينتصر منه، ويتولي حربه، وأنه سبحانه يتلقاه في التقرب منه بما تقر به عينه، وينشرح به صدره بقوله:((فكنت سمعه وبصر)) إلي آخره، ختمه بالتأخير عما يسوء المحبة ويكرهه تلطفًا وتعطفًا.
وقوله:((وما ترددت في شيء أنا فاعله)) مرتب عليه قوله: ((هو يكره الموت، وأنا أكره مساءته)) من باب التمثيل، سبه صورة توقف الله تعالي وتأخيره العبد عما يسوءه من الموت الذي في الظاهر مضرة، وتنبؤ عنه بشرية العبد، وفي ضمنه المنافع والوصول إلي غاية المطالب حتى تزول تلك الكراهة بلطائف يحدثها الله تعالي، ويظهرها عليه، فيشتاق إليه بما يتحقق عنده من البشرى برضوان الله تعالي وكرامته، بصورة أب مشفق بولده متعطف له، يريد إيصاله إلي ما يتم به كمال نفسه من العلم والأدب، ولا يتم ذلك إلا بنصب التكرار وتعب السهر، والولد يكرهه، وهو لا يريد مساءته، ولا أن يترك ما هو صلاحه فيه، فيتوخى لطائف الحيل، حتى يميل إليه قلب الولد، وينزع إليه. ثم أدخل صورة المشبه في جنس المشبه به مبالغة، ثم استعمل في المشبه اللفظ الذي كان مستعملا في المشبه اللفظ الذي كان مستعملا في المشبه به من التردد، وهذا التأويل موافق