للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ــ

وحظ العبد منه: أن يستسلم لحكمه، وينقاد لأمره، فإن لم يرض بقضائه اختيارًا أمضى فيه إجبارًا، ومن رضي به طوعًا لعلمه بأن له في كل شىء لطفًا مخفيًا، عاش راضيًا مرضيًا. قال الشيخ أبو القاسم: واعلم أنه تعالي حكم في الأزل لعباده بما شاء، فمن شقي وسعيد، وقريب وبعيد، فمن حكم له بالسعادة فلا يشقى أبدًا، ومن حكم له بالشقاوة لا يسعد أبدًا، كذا قالوا: من آقصته السوابق لم تدنه الوسائل، وقالوا: من قعد به جِدُّه لم ينهض به جَدُّه.

واعلم أن الناس علي أربعة أقسام: أصحاب السوابق، فتكون فكرتهم أبدًا فيما سبق لهم من الله تعالي في الأزل، يعلمون أن الحكم الأزلي لا يتغير با كتساب العبد، وأصحاب العواقب يتفكرون فيما يختم به أمرهم، فإن الأمور بخواتيمها، والعاقبة مستورة، ولهذا قيل: لا يغرنك صفاء الأوقات، فإن تحتها غوامض الآفات، فكم من مريد لاحت عليه أنوار الإرادة، وظهرت عليه أثمار السعادة، وانتشر صيته في الآفاق، وعقد عليه الخناصر، وظنوا أنه من جملة أوليائه وأهل صفائه بُدل بالوحشة صفاؤه، وبالغيبة ضياؤه. وفي معناه أنشد:

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم يخف سوء ما يأتى به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر

وأصحاب الوقت وهم لا يشتغلون بالتفكر في السوابق والعواقب، بل بمراعاة الوقت، وأداء ما كلفوا من أحكامه.

وقيل: العارف ابن وقته، وأصحاب الشهود هم الذين غلب عليهم ذكر الحق، فهم مأخوذون بشهود الحق عن مراعاة الأوقات، لا يتفرغون إلي مراعاة وقت وزمان، ولا يتطلعون بشهود حين وأوان. ويحكى عن الجنيد أنه قال: قلت للسرى: كيف أصبحت؟ فانشأ يقول:

ما في النهار ولا في الليل لي فرح فلا أبالي أطال الليل أم قصرا

ثم قال: ليس عند ربكم صباح ولا مساء، أشار بهذا أنه غير متطلع للأوقات، بل هو متوفي شهود الوقت عن الحالات والتارات.

((العدل)) العدل في الأمل مصدر عدلت الشىء أعدله: إذا قومته. ثم قيل للتسوية والإنصاف؛ لما فيه من إقامة الأمر، وحفظه عن طرفي الإفراط والتفريط. ومعناه البالغ في العدل، وهو الذي لا يفعل إلا ماله فعله. مصدر نعت به للمبالغة، وهو من صفات الأفعال. ووظيفة العارف منه: أن لا يعترض علي الله تعالي في تدبيره وحكمه، بل يرى الكل منه حقًا وعدلاً، ويستعمل كل ما منح من الأمور الداخلة فيه والخارجة عنه فيما ينبغى أن يستعمل فيه شرعًا وعقلاً، ويجتنب في مجامع أموره طرفي الإفراط والتفريط، فيتوقى في الأفعال الشهوية

<<  <  ج: ص:  >  >>