عنه ذاته عن نظر الخلق بحجب كبريائه، وإليه أشار من قال: الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، والظاهر بالقدرة، والباطن عن الفكرة. وقيل: الأول بلا مطلع، والآخر بلا مقطع، والظاهر بلا اقتراب، والباطن بلا حجاب. قال الشيخ أبو حامد: اعلم أنه تعالي إنما خفي مع ظهوره لشدة ظهوره، وظهوره سبب بطونه، ونوره هو حجاب نوره، وكل ما جاوز حده انعكس علي ضده.
وحظ العبد: أن يهتم بأمره، فيتدبر أوله ويتدبر آخره، ويصلح باطنه وظاهره. قال الشيخ أبو القاسم: أشار بهذه الأسماء إلي صفات أفعاله، فهو الأول بإحسانه، والآخر بغفرانه، والظاهر بنعمته، والباطن برحمته. وقيل: هو الأول بحسن تعريفه؛ إذ لولا فضله بدا لك من إحسانه لما عرفته. وأنشد:
سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبي للصبابة معهدا
وهو الآخر بإكمال اللطف، كما كان أولا بإسداء العرف. وهو الظاهر بما يفيض عليك من العطاء والنعماء، والباطن بما يدفع عنك من فنون البلاء وصنوف الأدواء. وقيل: الظاهر لقوم فلذلك وحدوه، والباطن عن قوم فلذلك جحدوه.
ويقال: الأول بوده لك بدأ، إذ لولا أنه بدأك بسابق وده، ما أخلصت له في عقده وعهده، آثرك في سابق القدم، وحكم لك عنده بصدق القدم، ورباك بفنون النعم، وعصمك عن سجود الصنم، واختارك علي جميع الأمم، ورداك برداء الإيمان، وكفاك بجميل الإحسان، ورقاك إلي درجة الرضوان، وحرسك من الشرك والبدع، وألقى في قلبك حسن الرجاء والطمع، فإن لم يلبسك صدار العرفان والورع، فلم يؤنسك عن لطفه بنهاية الفزع، وإن الذي هداك في الابتداء هو الذي يكفيك في الانتهاء.
يقال: إن العبد يبتهل إلي الله تعالي في الإعتذار، والحق تعالي يقول: عبدي لو لم أقبل عذرك لما وفقتك للعذر. وإن من فكر في صنوف الضلال، وكثرة طرق المحال، وشدة مغاليط الناس في البدع والأهواء، وما تشعب لكل قوم من مختلفي النحل والآراء، ثم فكر في ضعفه، ونقصان عقله، وكثرة تحيره في الأمور، وشدة جهله، وتناقص تدبيره في أحواله، شدة حاجته إلي الاستعانة بأشكاله في أعماله، ثم رأي خالص يقينه، وقوة استبصاره في دينه، ونقاء توحيده عن غبرة الشرك، وصفاء عين عرفانه عن وهج الشك- علم أن ذلك ليس من مناقبه، ولا بجهده، وكده، ووسعه ووجده، بل بفضل ربه، وسابق طوله.
((الوالي)) هو الذي تولي الأمور، وملك الجمهور. ((المتعالي)) هو البالغ في العلاء، والمرتفع عن النقائص.