وثالثهما: قيل: هذا من جملة العرب، وبديع استعمالها، يسمونه مزج الشك باليقين، كقوله تعالي:} وإنا أو إياكم لعلي هدى أو في ضلال مبين {صورته صورة الشك، والمراد به اليقين.
ورابعها: قيل: إنه جهل صفة من صفات الله تعالي، وقد اختلفوا في تكفير جاهل صفة من صفات الله تعالي، قال القاضي عياض: وممن كفره ابن جرير الطبري، وقال به أبو الحسن الأشعري أولا، وقال آخرون: لا يكفر به، بخلاف جحدها، وإليه رجع أبو الحسن، وعليه استقر مذهبه. قال: لأنه لم يعتقد ذلك اعتقادا يقطع بصوابه ويراه دينا شرعا، وإنما يكفر من اعتقد أن مقالته حق. وقالوا: لو سئل الناس عن الصفات، لوجد العارف بها قليلا.
وخامسها: قيل: هذا الرجل كان في زمان فترة حين ينفع مجرد التوحيد، ولا تكليف قبل ورود الشرع علي المذهب الصحيح؛ لقوله تعالي:} وما كنا معذبين حتى نبعث فيهم رسولا {.
وسادسها: قيل: إنما وصى بذلك تحقيرا لنفسه، وعقوبة لها بعصيانها وإسرافها، رجاء أن يرحمه الله تعالي.
((قض)):يحتمل أن يكون قوله: ((لئن قدر الله عليه)) من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون معناه: أنه تعالي لو وجده علي ما كان عليه، ولم يفعل به مافعل، فترحم عليه بسببه، ورفع عنه أعباء ذنبه، لعذبه عذابا لا يعذبه أحد من العالمين، أو لو ضيق عليه، وناقشه في الحساب، لعذبه أشد العذاب ويحتمل أن يكون من تتمة كلام الموصي علي غير لفظه.
أقول: وفي صحيح مسلم علي ما رواه الشيخ محيي الدين، وبنى عليه الشرح لفظة ((علي)) فلا يكون محتملا للوجه الأول، وعلي ما هو في أكثر السنة، وهو لفظة ((عليه)) إما الراوي حكى معنى لفظة لا ما تلفظه، أو قاله الرجل دهشا. والشيخ التوربشتي استشهد بالوجه الثالث، وهو مزج الشك باليقين لقوله تعالي:} فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب {وسماه بتجاهل العارف.
وتحريره: أن الله تعالي أراد أن يحقق ما أنزل عليه من أمر أهل الكتاب، ويقرره عنده، وعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يشك فيه قطعا، وإنما قاله تهييجا وإلهابا له، ليحصل له مزيد ثبات، ورسوخ قدم فيه، كذلك هذا الرجل علم أن الله تعالي قادر علي أن ينشره، ويبعثه، ويعذبه بعد ذلك، ويؤيده ما ورد في رواية آخرى ((وإن الله يقدر علي أن يعذبني)) فأراد أن يحرض القوم علي إنفاذ وصيته، فأخرج الكلام في معرض التشكيك لهم لئلا يتهاونوا في وصيته، فيقوموا بها حق القيام.