للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ــ

قوله صلى الله عليه وسلم: ((حجابه النور)) ((تو)): أشار بذلك إلى أن حجابه خلاف الحجب المعهودة، فهو محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله، وأشعة عضمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الذي تدهش دونه العقول، وتذهب الأبصار، وتحير البصائر، ولو كشف ذلك الحجاب فتجلى لما وراءه من حقائق الصفات وعظمة الذات، لم يبق مخلوق إلا احترق، ولا مفطور إلا اضمحل، وأصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي والمرئي، وهو ههنا راجع إلى منع الأبصار من الإصابة بالرؤية له بما ذكر، فقام ذلك المنع مقام الستر الحائل، فعبر به عنه. وروى ((حجابه النور، أو النار)) وقد تبين لنا من أحاديث الرواية، وتوفيقات الكتاب على التجليات الإلهية، أن الحالة المشار إليها في هذا الحديث، هي التي نحن بصددها في هذه الدار المستعدة المعدة للفناء، دون الذي وعدنا بها في دار البقاء، والحجاب المذكور في هذا الحديث وغيره يرجع إلى الخلق؛ لأنهم المحجوبون عنه.

وقوله: ((سبحات وجهه)) أي جلالته، كذا فسرها أهل اللغة، وقال أبو عبيدة: نور وجهه، و ((سبحات)) بضم السين والباء جمع سبحة، كغرفة وغرفات، فقد قال بعض أهل التحقيق: إنها الأنوار التي إذا رآها الراءون من الملائكة سبحوا وهللوا، لما يروعهم من جلال الله وعظمته، انتهى كلامه.

أقول – والله أعلم -: ويعضد قول أهل التحقيق ما روى ابن الأثير في النهاية أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((النظر إلى وجه علي عبادة)) قيل: معناه إن عليا رضي الله عنه كان إذا برز قال الناس: لا إله إلا الله ما أشرق هذا الفتى! لا إله إلا الله ما أعلم هذا الفتى! لا إله إلا الله ما أشجع هذا الفتى! وكانت رؤيته تحملهم على كلمة التوحيد، فعلى هذا ((سبحان الله)) كلمة تعجب وتعجيب.

((الكشاف)): فيه معنى التعجب، والأصل في ذلك أن يسبح الله في رؤية العجب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه. ((مح)): ذهبوا إلى أن معنى ((سبحات وجهه)) نوره وجلاله وبهاؤه، وأما الحجاب فأصله في اللغة المنع والستر وحقيقة الحجاب إنما تكون للأجسام المحدودة، والله تعالى منزه عن الجسم والحد، والمراد ههنا مجرد المنع من رؤيته، وسمي نورا أو نارا؛ لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة لشعاعهما. والمراد ((بالوجه)) الذات، وبـ ((ما انتهى إليه بصره من خلقه)) جميع المخلوقات؛ لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات، ولفظه ((من)) لبيان الجنس، وكذا في شرح السنة.

وذهب المظهر وغيره إلى أن الضمير في ((بصره)) راجع إلى الخلق، و ((ما)) في ((ما انتهى)) بمعنى من، و ((من خلقه)) بيان له، والأول هو الوجه، وإليه أشار التوربشتي بقوله: ((ولو كشف ذلك الحجاب فتجلى لما وراءه لم يبق مخلوق إلا احترق، ولا مفطور إلا اضمحل)). ومنى إثبات البصر لله تعالى مذكور في شرح السنة مستقصى. وها هنا وجوه متعلقة بلطائف المعاني ومحسنات البدائع، لا بد من ذكرها.

<<  <  ج: ص:  >  >>