كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلي حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس، وقال:((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية
ــ
قوله: ((إلا أنه واقف)) أي أنه في وقوفه، وفي الاستثناء دقة، يعني أن قريشاً لم يشكوا في أنه صلى الله عليه وسلم خالفهم في سائر مناسك الحج إلا الوقوف عند المشعر الحرام، فإنهم لم يشكوا في المخالفة، بل تحققوا أنه صلى الله عليه وسلم يقف عند المشعر الحرام؛ لأنه من المواقف الخمس، وأهل حرم الله. ((مح)): هو جبل في المزدلفة، يقال له: قزح، وقيل: هو كل المزدلفة، وكان سائر العرب يجاوزون المزدلفة، ويقفون بعرفات، وظنت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف في المشعر الحرام علي عادتهم، ولا يجاوز عنه، فتجاوز إلي عرفات، لأن الله تعالي أمره بذلك في قوله تعالي:{ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} أي سائر العرب، وكانت قريش يقولون: نحن أهل حرم الله، ولا نخرج منه. وقوله:((فأجاز)) أي جاوز المزدلفة. وقوله:((أتى عرفة)) أي قارب عرفات؛ لقوله:((فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها)): لأن نمرة ليست من عرفات.
قوله:((فرحلت له)) أي أمر بوضع الرحل علي القصواء، ففعل، تقول: رحلت البعير أرحله رحلاً، إذا شددت علي ظهره الرحل. قال الأعشى:
رحلت سمية غدوة أجمالها ... غضبى عليك، فما تقول بدالها
قوله:((بطن الوادي)) ((مح)): هو عرنة- بضم العين وفتح الراء وبعدها نون- وليست من أرض عرفات عند الشافعي، ومنها عند مالك.
قوله:((إن دماءكم وأموالكم)) ((تو)): أراد أموال بعضكم علي بعض، إنما ذكره مختصراً اكتفاء بعلم المخاطبين، حيث جعل ((أموالكم)) قرينة ((دماءكم))، وإنما سبه ذلك في التحريم بيوم عرفة، وبذي الحجة، وبالبلد؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها محرمة أشد التحريم لا يستباح منها شيء، وفي تشبيهه هذا مع بيان حرمة الدماء والأموال تأكيد لحرمة تلك الأشياء التي شبه بتحريمها الدماء والأموال.
أقول: هذا من تشبيه ما لم تجر به العادة بما جرت به العادة، كما في قوله تعالي:{وإذ
نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} كانوا يستبيحون دماءهم وأموالهم في الجاهلية في غير الأشهر
الحرم، ويحرمونها فيها، كأنه قيل: إن دماءكم وأموالكم محرمة عليكم أبداً كحرمة يومكم