والإثم ماحك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس)). رواه أحمد، والدارمي [٢٧٧٤].
ــ
((قض)): هذا الحديث من دلائل النبوة ومعجزات الرسول؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر عما في ضمير وابصة قبل أن يتكلم به، والمعنى أن الشيء إذا أشكل عليك والتبس ولم تتبين أنه من أي القبيلين هو؟ فليتأمل فيه إن كان من أهل الاجتهاد، وليسأل المجتهدين إن كان من المقلدين، فإن وجد ما تسكن إليه نفسه ويطمئن به قلبه وينشرح به صدره، فليأخذ به وليختر لنفسه، وإلا فليدعه، وليأخذ بما لا شبهة فيه ولا ريبة، هذا طريقة الورع والاحتياط، وحاصله راجع إلي حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، ولعله إنما عطف اطمئنان القلب علي اطمئنان النفس؛ للتقرير والتأكيد؛ فإن النفس إذا ترددت في أمر وتحيرت فيه وزال عنها القرار، استتبع ذلك العلاقة التي بينها وبين القلب، الذي هو المتعلق الأول لها، فتنقل العلاقة إليه من تلك الهيئة أثرًا فيحدث فيه خفقان واضطراب، ثم ربما يسري هذا الأثر إلي سائر القوى، فيحسن بها الحلال والحرام، فإذا زال ذلك عن النفس، وحدث لها قرار وطمإنينة، انعكس الأثر، وتبدلت الحال علي مالها من الفروع والأعضاء. وقيل: المعني بهذا الأمر أرباب البصائر من أهل النظر والفكرة المستقيمة، وأصحاب الفراسات من ذوي النفوس المرتاضة والقلوب السليمة؛ فإن نفوسهم بالطبع تصبو إلي الخير وتنبو عن الشر، فإن الشيء ينجذب إلي ما يلائمه وينفر عما يخالفه؛ ويكون ملهمة للصواب في أكتر الأحوال. ((تو)): وهذا القول وإن كان غير مستبعد؛ فإن القول يحمله علي العموم فيمن تجمعهم كلمة التقوى، وتحيطهم دائرة الدين أحق وأهدى.
أقول: ولعل هذا الوجه أرجح؛ لأن المراد من النفس هو القلب علي الاستعارة؛ لأن الإنسان كما يتقوم بالنفس كذلك يتقوم بالقلب، ودل تكرير ((استفت استفت)) علي اتحادهما، ثم إذا كرر ثلاث مرات زاد التأكيد أضعافًا، فإذا حصل ذلك بعد ضرب جمع الكف علي صدر وابصة مخاطبًا له ((بنفسك)) وأنه خطاب لمثل وابصة، ومن هو علي صفته من شرف النفس وكرم الخلق، دل علي أنه لا ينبغي له أن يتجاوز نفسه إلي الغير، ولا يستفتى إلا عن نفسه؛ ولذلك جاء بقوله:((وإن أفتاك الناس)) فإنها شرط قطع عن الجزاء، تتميمًا للكلام السابق وتقريرًا له علي سبيل المبالغة. وقيل: الضمير في ((صدره)) يعود إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أوهمه قوله:((قال)) ويجوز أن يكون من كلام الراوي غير وابصة، وهو أولي بسياق المعنى كما مر.
فإن قلت: سياق الحديث الأول في الصدق والكذب، وهذا في البر والإثم، فكيف وردا في باب الكسب؟ وأي مناسبة بينهما؟ قلت: قوله: ((طمإنينة)) كالبيان والتفسير للصدق، فلا يراد به المتعارف بل أعم، فهو حينئذ من باب عموم المجاز، ويشتمل علي الصدق في المقال والفعال، ومن الفعال طلب كسب الحلال، والكذب يقابله الكذب في المعنى.