يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا: أولوها له يفقهها. قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: الدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس رواه البخاري.
ــ
أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ}، ((الكشاف)): ولى الماء الكاف وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحل، لتقديره ومما هو؟ بين في هذه قول لبيد:
وما الناس إلا كالديار وأهلها وبها يوم خلوها وغدوا بلاقع
لم يشبه الناس بالديار؛ وإنما شبه وجودهم فيها وسرعة زوالهم وفنائهم بحلول أهل الديار فيها، ووشك نهوضهم عنها وتركها خلا خاوية. وتحريره أن الملائكة مثلوا سبق رحمة الله تعالى على العالمين بإرساله الرحمة المهداة إلى الخلق، كما قال تعالى:{ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ثم إعداده الجنة للخلق، ودعوته صلوات الله عليه إياهم إلى الجنة ونعيمها وبهجتها، ثم إرشاده الخلق لسلوك الطريق إليها وإتباعهم إياه بالاعتصام بالكتاب والسنة المدليان إلى العالم السفلي، وكأن الناس واقعون في هواة طبيعتهم ومشتغلون بشهواتها، وأن الله يريد بلطفه رفعهم؛ فأدلى حبل القرآن والسنة إليهم، ليخلصهم من تلك الورطة؛ فمن تمسك بهما نجا وحصل في الفردوس الأعلى والجناب الأقدس عند مليك مقتدر، ومن أخلد إلى الأرض هلك وأضاع نصيبه من رحمة الله، بحال مضيف كريم بنى داراً وجعل فيها من ألوان الأطعمة المستلذة والأشربة المستعذبة ما لا يحصى ولا يوصف، ثم بعث داعياً إلى الناس يدعوهم إلى الضيافة، إكراماً لهم – فمن اتبع الداعي نال من تلك الكرامة، ومن لم يتبع حرم منها.
ثم إنهم وضعوا مكان حلول سخط الله بهم ونزول العقاب السرمدي عليهم قولهم:((لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة)) لأن فاتحة الكلام سيق لبيان سبق الرحمة على الغضب، فلم يطابق إن لو ختم بما يصرح بالعذاب والغضب، فجاءوا بما يدل على المراد على سبيل الكناية.
((محمد فرق بين الناس)) كالتذييل للكلام السابق، لأنه مشتمل على معناه ومؤكد له. ثم في حضور الملائكة، ورجع بعض الكلام على بعض، وتمثيلهم ذلك، ووضعهم المظهر موضع المضمر في مواضع من الحديث، وتكرير الألفاظ مرة بعد أخرى، وفي تقديم المجمل ممثلا به وتأويله – دلالة على الإرشاد التام، وإزاحة [العلل]، وإيقاظ السامعين من رقدة الغفلة وسنة الجهالة، وحث لهم على الاعتصام بالكتاب والسنة، والإعراض عما يخالفهما من البدعة والضلالة، والله أعلم.