الحديث الثالث عن أبي ذر: قوله: ((اعقل)) مقول القول, و ((ستة أيام)) ظرف القول واعقل أي تفكر وتأمل واعمل بمقتضى ما أقول لك, وعليه قوله تعالي:{وتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ومَا يَعْقِلُهَا إلَاّ العَالِمُونَ} , وإنما فعل ذلك لينبه أن ما بعده معني به جدا يجب تلقيه بالقبول والقيام بحقه, ولعمري إن الكلمة الأولي لو أدى حقها، لكفي بها كلمة جامعة ونحوه قوله تعالي:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} أي تنزه عما يشغل سرك عن الحق وتبتل إليه بشرا شرك تبتيلا, وهذا هو التقوى الحقيقية التي لا غاية لها.
وقوله:((وإذا أسأت فأحسن)) إشارة إلي أن الإنسان مجبول علي الشهوات ومقتضى البهيمة والسبعية والملكية, فإذا ثارت من تلك الرذائل رذيلة يطفئها بمقتضى الملكية, كما قال صلى الله عليه وسلم:((اتبع السيئة الحسنة تمحها)) وقوله: ((ولا تسألن أحدا شيئا)) انتهاء درجة التوكل وتفويض الأمور إلي الله تعالي.
وقوله:((وإن سقط سوطك)) تتميم له. وقوله:((ولا تقبض أمانة)) يدل علي ثقل تحملها وصعوبة أدائها؛ ولذلك مثل الله تعالي ماله علي المخلوقات، بقوله تعالي:{إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}.
قوله:((ولا تقض بين اثنين)) إشارة إلي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين)) ويمكن أنه صلى الله عليه وسلم إنما نهي أبا ذر عن قبض الأمانة, والحكم بين اثنين لضعفه عن القيام بهما, كما سبق في الفصل الأول أنه لما طلب الإمارة قال له صلى الله عليه وسلم:((يا أبا ذر! إني أراك ضعيفا لا تأمرن علي اثنين ولا تولين مال يتيم)).