((مح)): وإنما ابتدأ في الحديث بقوله: ((إنما أنا بشر)) تنبيها علي أن السهو والنسيان غير مستبعد من الإنسان, وان الوضع البشري يقتضي أن لا يدرك من الأمور إلا ظواهرها, وأنه خلق خلقا لا يسلم من قضايا تحجبه عن حقائق الأشياء. ومن الجائز أن يسمع الشيء فيسبق إلي وهمه أنه صدق, ويكون الأمر بخلاف ذلك, بمعنى: إني إن تركت علي ما جبلت عليه من القضايا البشرية, ولم أأيد بالوحي السماوي طرأ علي منها ما يطرأ علي سائر البشر.
فإن قيل: أو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مصونا في أقواله وأفعاله معصوما علي سائر أحواله؟ قلت: إن العصمة تتحقق فيما يعد عليه دينا ويقصد قصدا, وما نحن فيه فليس بداخل في جملته؛ فإن الله تعالي لم يكلفه فيما لم ينزل عليه إلا ما كلف غيره وهو الاجتهاد في الإصابة. يدل عليه ما روى عنه في الحديث الذي ترويه أم سلمة من غير هذا الوجه, وهو في حسان هذا الباب ((إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي)).
((مح)) فيه تنبيه علي حاله البشرية وان البشر لا يعلم من الغيب وبواطن الأمور شيئا, إلا أن يطلعه الله علي شيء من ذلك, وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز علي غيره, وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر والله يتولي السرائر, فيحكم بالبينة واليمين مع إمكان خلاف الظاهر. وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس – إلي قوله – وحسابهم علي الله)) ولو شاء الله لأطلعه صلى الله عليه وسلم علي باطن أمر الخصمين, فحكم بيقين نفسه من غير حاجة إلي شهادة أو يمين, ولكن لما أمر الله تعالي أمته بإتباعه والاقتداء بأقواله وأفعاله وأحكامه, أجرى عليه حكمهم من عدم الاطلاع علي باطن الأمور؛ ليكون للأمة أسوة به في ذلك؛ وتطييبا لنفوسهم في الانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلي الباطن.
فإن قيل: هذا الحديث ظاهره أنه يقع منه صلى الله عليه وسلم حكم في الظاهر مخالف للباطن, وقد اتفق الأصوليون علي أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر علي الخطأ في الأحكام. فالجواب أنه لا تعارض بين الحديث وقاعدة الأصول؛ لأن مرادهم فينا حكم فيه باجتهاده فهل يجوز أن يقع فيه خطأ؟ فيه خلاف, الأكثرون علي جوازه.
وأما الذي في الحديث فليس من الاجتهاد في الشيء؛ لأنه حكم بالبينة واليمين, فلو وقع منه ما يخالف الباطن لا يسمى الحكم خطأ, بل الحكم صحيح بناء علي ما استقر به التكليف, وهو وجوب العمل بشاهدين مثلا فإن كانا شاهدي زور ونحو ذلك, فالتقصير منهما, وأما الحاكم فلا حيلة له في ذلك ولا عتب عليه بسببه, بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد, وفيه دلالة علي أن حكم الحاكم لا يحل حراما, فإذا شهد شاهد زور لإنسان بمال, فحكم به الحاكم له, لم يحل للمحكوم له ذلك المال, ولو شهد عليه بقتل لم يحل للوالي قتله مع علمه بكذبهما, وإن شهدا علي أنه طلق امرأته, لم يحل لمن علم كذبهما أن يتزوجها. انتهي كلامه. وإليه