٣٧٩٦ - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير علي متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة، طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه
ــ
عليها،، وأن يكون عقابه بغير النار أو يعاقب في غير مكان عقاب الكفار، ولا يجتمعان في إدراكها. أقول: والأول هو الوجه، وهو من الكناية التلويحية، نفي الاجتماع فيلزم منه نفي المساواة بينهما فيلزم أن لا يدخل المجاهد النار أبدا، فإنه لو دخلها لساواه، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في الفصل الثاني: ((ولا يجتمع علي عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم)) وفي رواية ((في منخري مسلم)). وقوله:((أبدا)) بمعنى ((قط)) في الماضي، وعوض في المستقبل تنزيلا للمستقبل منزلة الماضي. ((الجوهري)): يقال: لا أفعله أبد الآباد وأبد الآبدين، كما يقال: دهر الداهرين وعوض العائضين، والمقام يقتضيه لأنه ترغيب في الجهاد وحث عليه، ونحوه قوله:((ما أغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار)).
الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من خير معاش الناس)) ((قض)): المعاش والتعيش، يقال: عاش الرجل معاشا ومعيشا وما يعاش به، فيقال له: معاش ومعيش كمعاب ومعيب ومحال ومحيل. وفي الحديث يصح تفسيره بهما و ((جل)) رفع بالابتداء علي حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أي معاش رجل هذا شأنه من خير معاش الناس لهم. ((يطير علي متنه)) أي يسرع راكبا علي ظهره مستعار من طيران الطائر. و ((الهيعة)) الصيحة التي يفزع منها ويجبن، من هاع يهيع هيعا إذا جبن. و ((الفزعة)) ها هنا فسر بالاستغاثة من فزع إذا استغاث، وأصل الفزع شدة الخوف فيبتغي القتل والموت مظانه، أي لا يبالي ولا يحترز منه بل يطلبه حيث يظن أنه يكون)).
و ((مظان)) جمع مظنة وهي الموضع الذي يعهد فيه الشيء ويظن أنه فيه، ووحد الضمير في ((مظانه)) إما لأن الحاصل والمقصود منهما واحد، أو لأنه اكتفي بإعادة الضمير إلي الأقرب، كما اكتفي بها في قوله تعالي:{والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ}((أو رجل في غنيمة)) أي معاشة، والظرف متعلق به إن جعل مصدرا أو بمحذوف هو صفة لرجل، و ((غنيمة)) تصغير غنم وهو مؤنث سماعي؛ ولذلك صغرت بالتاء، و ((الشعفة)) رأس الجبل ((من هذه الشعف))، يريد به الجنس لا العهد، و ((اليقين)) الموت. سمي به لتحقق وقوعه.
أقول: قوله: ((يطير)) إما صفة بعد صفة أو حال من الضمير في ((ممسك)) و ((طار)) جواب ((كلما)) وهو مع جوابه حال من ضمير ((يطير)). وفيه تصوير حالة هذا الرجل وشدة اهتمامه بما