((مح)): في الحديث دليل لمن قال بتفضيل العزلة علي الاختلاط، وفي ذلك خلاف مشهور فمذهب الشافعي وأكثر العلماء، أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن. ومذهب طوائف من الزهاد أن الاعتزال أفضل، واستدلوا بالحديث. وأجاب الجمهور بأنه محمول علي زمان الفتن والحروب، أو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر علي أذاهم.
وقد كانت الأنبياء صلوات الله عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين ويحصلون منافع الاختلاط بشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضي وحلق الذكر وغير ذلك.
أقول: وفي تخصيص ذكر المعاش تلميح، فإن العيش المتعارف بين أبناء الدهر هو استيفاء اللذات والانهماك في الشهوات، كما سميت البيداء المهلكة بالمفازة والمنجاة، واللديغ بالسليم، وتلميح إلي قوله صلى الله عليه وسلم:((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)). وفيه أن لا عيش ألذ وأمرأ وأشهي وأهنأ مما يجد العبد من طاعة ربه ويستروح إليها، حتى يرفع تكاليفها ومشاقها عنه، بل إذا فقدها كان أصعب عليه مما إذا وتر أهله وماله، وإليه ينظر قوله صلى الله عليه وسلم:((أرحنا يا بلال)) وقوله: ((وجعل قرة عيني في الصلاة)) وتعريض بذم عيش الدنيا لما ورد: ((تعس عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد الخميصة)) إلي قوله: ((طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله)) الحديث. وجماع معنى الحديث الحث علي مجاهدة أعداء الدين، وعلي مجاهدة النفس والشيطان والإعراض عن استيفاء اللذات العاجلة.
الحديث الحادي عشر عن زيد: قوله: ((ومن خلف غازيا)) ((قض)): يقال: خلفه في أهله إذا قام مقامه في إصلاح حالهم ومحافظة أمرهم، أي من تولي أمر الغازي وناب منابه في مراعاة أهله زمان غيبته، شاركه في الثواب؛ لأن فراغ الغازي له واشتغاله به بسبب قيامه بأمر عياله فكأنه مسبب من فعله.
الحديث الثاني عشر عن بريدة: قوله: ((فيخونه فيهم)) الضمير المفعول عائد إلي ((رجلا)) وفي ((فيهم)) إلي الأهل تعظيما وتفخيما لشأنهن، كقول الشاعر: