بثلاث)) أي ما اختصنا بحكم لم يحكم به علي سائر أمته، ولم يأمرنا بشيء لم يأمرهم به إلا بثلاث خصال.
والظاهر أن قوله:((أمرنا)) إلي آخره تفصيل لها. وعلي هذا ينبغي أن يكون الأمر أمر إيجاب، وإلا لم يكن فيه اختصاص؛ فإن إسباغ الوضوء مندوب علي غيرهم. وإنزاء الحمار علي الفرس مكروه مطلقا، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي رضي الله عنه:((إنما يفعل ذلك الذي لا يعلمون)). والسبب فيه قطع النسل واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ فإن البغلة لا تصلح للكر والفر؛ ولذلك لا يسهم لها في الغنيمة ولا سبق فيها علي وجه؛ ولأنه علق بأن لا يأكل الصدقة هو واجب، فينبغي أن يكون قرينة أيضا لذلك، وإلا لزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين، اللهم إلا أن تفسر الصدقة بالتطور أو الأمر المشترك بين الإيجاب والندب.
ويحتمل أن المراد أنه صلى الله عليه وسلم ما اختصنا بشيء إلا بمزيد الحث والمبالغة في ذلك.
أقول: قد تقرر عند علماء البيان أنهم يقدمون علي ما سبق الكلام له تنبيهات ومقدمات، كقرع العصا بأن ما يتولها أمور عظام وخطوب جسام، ينبغي أن يتلقاها السامع بشراشره، فافتتاح ابن عباس رضي الله عنهما بقوله:((كان عبدا مأمورا)) يدل علي فخامة ما بعده من قوله: ((ما اختصنا)) إلي آخره.
ونظيره في تمهيد المقدمة والعرض والأسلوب ما سبق في تفسير قول علي رضي الله عنه، حين سئل هل عندكم شيء ليس في القرآن؟ فقال:((والذي فلق الحبة وبرأن النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يعطى الرجل في كتابه وما في الحصيفة)) الحديث؛ فإن القسيمة في حديث علي رضي الله عنه وقعت موقع قوله:((كان عبدا مأمورا)). فقول ابن عباس أيضا من ذلك الوادي، يعني ما اختصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معاشر أهل البيت من بين سائر الناس إلا بهذه الخلاف المعلومة المشهورة، بعضها سنة مشتركة بين سائر الناس، كإسباغ الوضوء مثلا، وبعضها مكروهة كإنزاء الحمار مثلا، وبعضها مختصة بأهل البيت كحرمة الصدقة المغصوبة في الكتاب والسنة مثلا.
فإن عدت هذه الأمور وتلك الأوامر من العلوم المختصة بنا فهو ذاك. فلما لم يكن مختصا بنا علمها، فيلزم أن لم يكن استأثرنا بشيء من العلوم دون الناس. ردا للشيعة أبلغ رد؛ لأنه من باب إرخاء العنان وإجراء الكلام مع الخصم علي سنن يبعث للمنصف أن يتفكر فيه ويذعن للحق، كقوله تعالي:{وَإنَّا أَوْ إيَّاكُمْ لَعَلي هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}.
وتلخيص الكلام وتحريره أن سياق الكلام وارد لنفي التهمة عن أنفسهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم اختصهم بشيء من العلوم دون الناس، فتعداد تلك الخصال ليست لبيان الواجب أو الندب أو الكراهة، بل لمجرد خلال معدودة علي غير ترتيب والتئام، ولذلك حسن موقعها في النظام وإلا كان كالجمع بين الضب والنون، والأروى والنعام، عرف ذلك من رزق الذوق، وإلا فلا حيلة مع من حرمها.