لأصجابه:((هل رأي أحد منكم من رؤيا)) فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات غداة:((إنه أتاني الليلة آتيان، وإنما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما)). وذكر مثل الحديث المذكور في الفصل الأول بطوله، وفيه زيادة ليست في الحديث المذكور، وهي قوله:((فأتينا على روضة معتمة، فيها من كل نور الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل، لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط. قلت لهما: ما هذا، ما
ــ
لنا))، وتحريره: كان [رسول الله] صلى الله عليه وسلم ممن يجيد تعبير الرؤيا، وكان له مساهمة فيهم؛ لأن الإكثار من هذا القول لا يصدر إلا ممن يتدرب فيه ويثق بإصابته، كقولك: كان زيد من العلماء، ونحوه قول صاحبي يوسف عليه السلام في السجن:{نبئنا بتأويله إنا نراك من الحسنين}، أي المجيدين في عبارة الرؤيا، وعلما ذلك لما [رأيا يقص] عليه بعض أهل السجن.
هذا من حيث البيان. وأما من طريق النحو فيحتمل أن يكون قوله:((هل رأي أحد منكم من رؤيا؟)) مبتدأ، والخبر مقدم عليه على تأويل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول مما يكثر أن يقوله، ولكن أين الثريا من الثرى؟ وقوله:((وإني انطلقت)) معطوف على قوله: ((وإنما قالا لى)) أي حصل منهم القول ومني الانطلاق. وذكر صلى الله عليه وسلم ((إن)) المؤكدة أربع مرات؛ تحقيقاً لما رآه وتقريراً لقوله:((الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)). و ((معتمة)) أي طويلة النبات، يقال: أعتم النبت إذا طال، والنور- بفتح النون- الزهر.
وقوله:((طولا)) تمييز. قوله:((وإذا حول الرجل)) أصل التركيب: وإذا حلو الرجل ولدان ما رأيت ولدانا قط أكثر منهم؛ يشهد له قوله:((لم أر روضة قط أعظم منها)) ولما كان التركيب متضمناً لمعنى النفي جاز زيادة ((من)) و ((قط)) التي تختص بالماضي المنفي، ونره حديث حارثة قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن أكثر ما كنا قط)). وقد سبق بيانه في باب صلاة [السفر].
الكشاف: في قوله تعالى: {فشربوا منه إلا قليل} على قراءة الرفع، هذا من حيلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً، وهو باب عظيم من علم العربية، فلما كان معنى ((فشربوا منه)) في معنى ((فلم يطيعوه)) حمل عليه، كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم. وقال ابن جني في مثل هذا الكلام: وهذا من أشد مذاهب العربية. وذلك أنه موضع يملك فيه المعنى عنان الكلام فيأخذه ويصرفه بحسب ما يؤثره.
قوله:((ما هذا؟ ما هؤلاء؟)) هذا إشارة إلى الرجل الطويل ((وهؤلاء)) إلى الولدان ومن حق