أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت، حتى ظننا أنه ينزل عليه. قال: فمسح عنه الرحضاء وقال: ((أين السائل؟)). وكأنه حمده فقال:((إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر أكلت حتى امتدت خاصرتاها، استقبلت
ــ
فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت. وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب فتستكثر منها الماشية. و ((يلم)) أي تقرب وتدنو من الهلاك. و ((الخضر)) بكسر الضاد نوع من القبول، ليس من أحرارها وجيدها، وإنما يرعاها المواشي إذا لم تجد سواها، فلا تكثر من أكلها ولا تستمرئ بها. و ((الثلط)) الرجيع الرقيق. وأكثر ما يقال للإبل والبقر والفيلة.
((قض)): و ((آكلة)) نصب على أنه مفعول ((يقتل)) والاستثناء مفرغ، والأصل أن مما ينبت الربيع ما يقتل آكله إلا آكل الخضر على هذا الوجه. وإنما صح الاستثناء المفرغ من المثبت لقصد التعميم فيه، ونظيره قرأت إلا يوم كذا.
أقول: وعليه ظاهر كلام المظهر، والأظهر أن الاستثناء منقطع لوقوعه في الكلام المثبت وهو غير جائز عند صاحب الكشاف إلا بالتأويل؛ ولأن ما يقتل حبطا بعض ما ينبت الربيع لدلالة ((من)) التبعيضية عليه، والتقسيم في قوله:((إلا آكلة الخضر)) لأن الخضر غير ما يقتل حبطاً، يشهد له ما في شرح السنة.
قال الأزهري: فيه مثلان: ضرب أحدهما للمفرط في جمع الدنيا ومنعها من حقها، وضرب الآخر للمقتصد في أخذها والانتفاع بها، وأما قوله:((إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا)) فهو مثل للمفرط الذي يأخذها بغير حق. وذلك أن الربيع مما ينبت أحرار الشعب فتستكثر منه الماشية حتى تنتفخ بطونها، لما قد جاوزت حد الاحتمال فتنشق أمعاؤها فتهلك، كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلها ويمنع ذا الحق حقه، يهلك في الآخرة بدخول النار. وأما مثل المقتصد فقوله صلى الله عليه وسلم:((إلا آكلة الخضر)) وذلك أن الخضر ليست من أحرار البقول التي ينبتها الربيع فتستكثر منها الماشية، ولكنها من كلأ الصيف التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول شيئاً فشيئاً من غير استكثار. فضرب مثلا لمن يقتصد في أخذ الدنيا ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها.
((شف)): في قوله: ((حتى امتدت خاصرتها، استقبلت عين شمس)) أن المقتصد المحمود العاقبة، وإن جاوز حد الاقتصاد في بعض الأحيان، وقرب من السرف المذموم لغلبة الشهوة المركوزة في الإنسان. وهو المعني بقوله:((أكلت حتى امتدت خاصرتاها)) لكنه يرجع عن قريب عن ذلك الحد المذموم، ولا يثبت عليه بل يلتجئ إلى الدلائل النيرة والبراهين الواضحة الدافعة للحرص المهلك القامعة له، وهو المدلول عليه بقوله: ((استقبلت عين شمس وثلطت