أقول: قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس ذلك)) رد لحملهم الحياء علي ما تعورف مطلقاً لما ضم إليه من التقييد بقوله: ((حق الحياء)) ولذلك أعادها مقيدة في الجواب، يعني حق الحياء أن يترك شيئاً منها وما يتصل بها وما يتفرع عليها إلا أن يتحرى ويقام به، كما قال تعالي:{اتقوا الله حق تقاته}((الكشاف)) أي واجب تقواه وما يحق منها، وهو القيام بالواجب، واجتناب المحارم، ونحو ((فاتقوا الله ما استطعتم)) يريد بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئاَ، ولهذا السر فسره صلوات الله عليه بكلام جامع حاو لمعان لا تكاد تدخل تحت الإحصاء، فينبغي للشارح المتقن أن يراعي هذا فيما فسره صلوات الله عليه، فنقول- وبالله التوفيق-: وذلك أنه صلى الله عليه وسلم جعل الرأس وعاء وظرفاً لكل ما لا ينبغي من رذائل الأخلاق، كالفم والعين، والأذن وما يتصل بها، وأمر أن يصونها، كأنه قيل: كف عنك لسانك، فلا تنطق به إلا خيراً، ولعمري إنه شطر الإنسان، قال:
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده فلم تبق إلا صورة اللحم والدم
ولهذا ورد ((من صمت نجا)). وإنما لم يصرح بذكر اللسان، ليشمل ما يتعلق بالفم من أكل الحرام والشبهات، وكأنه قيل: وسد سمعك أيضاً عن الإصغاء إلي ما لا يعنيك من الأباطيل والشواغل، واغضض عينك عن المحرمات والمشتهيات، ولا تمدن عينيك إلي ما متعنا به الكفار من زهرة الحياة الدنيا، فكيف لا، وهو رائد القلب الذي هو سلطان الجسد، ومضغة ((إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله)).
وهنا نكتة، وهي عطف ((ما وعى)) علي الرأس، فحفظ الرأس مجملاً عبارة عن التنزه عن الشرك، فلا يضع رأسه لغير الله ساجداً متواضعاً، وعن الاستكبار، فلا يرفعه متكبراً علي عباد الله وجعل البطن قطباً يدور علي سرته الأعضاء من القلب، والفرج، واليدين، والرجلين؛ ولهذا ورد (من وكل إلي ما بين فكيه ورجليه وكلت له الجنة)). وفي عطف ((وما حوى)) علي البطن إشارة إلي حفظه من الحرام والاحتراز من أن يملأ من المباح، وفذلكة ذلك كله، قوله:((ويذكر الموت والبلي))، كقوله صلى الله عليه وسلم:((أكثروا ذكر هاذم اللذات))؛ لأن من ذكر أن عظامه ستصير بالية، وأعضاؤه متمزقة، هان عليه ما فاته من اللذات العاجلة، وأهمه ما يجب عليه من طلب الآجلة. وهذا معنى قوله:((ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا))، فيكون كالتذييل للكلام السابق.