لقد أنتج مؤرخو الثقافة الأمريكيون ما يكفى من الدراسات لكي يفهم منابع الدافع إلى السيطرة على نطاق عالمي، والطريقة التي بها يتم تمثيل هذا الدافع وجعله موضع قبول. وهنا يطرح (ريتشارد سلوتكين)، مثلاً، في كتابه (التجدد عن طريق العنف)، منظومة أن التجربة المكونة للتاريخ الأمريكي هي الحروب المديدة ضد الهنود الأمريكيين الأصلانيين، وقد أنتج هذا بدوره صورة للأمريكيين لا كمجرد قتله (كما وصفهم دى. اتش لورانس)، بل كعرق جديد من البشر، مستقلين عن الميراث الإنساني الذي لطخه الإثم بالسواد. يرومون علاقة جديدة وأصيلة تماماً مع الطبيعة النقية كصيادين، ومستكشفين، ورواد، وباحثين. وتتكرر مثل هذه الصور مراراً في أدب القرن التاسع عشر الميلادي، وهى تبزغ بزوغها، الأشد التصاقاً بالذاكرة في رواية (هرمان ملفيل)، (موبى دك)، حيث يجسد القبطان آهاب، تمثيلاً ترميزياً للبحث الأمريكي الكوني. فآهاب مهووس، يفرض نفسه بقوة، لا يصد، ملفع بتبريراته النظرية الشخصية وبإحساسه برمزيته الكونية" (١).
فمنذ البداية كما رأينا أنها حتى قبل أن تصبح ولايات متحدة كانت أمريكا تطمح إلى عولمة نمط أنظمتها، ولم يفتش مفكروها الأوائل من أساتذة وكتاب وقساوسة ورجال دولة عن لحظة لاخفاء هدفهم النهائي ألا وهو: فرض نموذجهم للمجتمع على العالم أجمع. وقبل كل شيء ومن أجل تقديم المثال عرضت للآخرين لدرجة التفاخر الصورة الرائعة لأمة جديدة مختارة من الله لهدف واحد هو توزيع رسالة وحيدة لمستقبل تراه مشرقاً لكل الشعوب. إلا أنه وفي وقت مبكر جداً زالت إرادة إثارة الرغبات أمام اليقين بخضوع الآخرين بالإكراه لأنه بدا أمام هذه المقاومة أو تلك أمراً لا مفر منه. لقد اعتقدت أمريكا وأرادت لنفسها أن تكون كياناً كلياً لا شبيه له. ولذلك رأت نفسها أعلى من كل المناطق التي يعيش فيها الأفراد والأمم، المناطق التي تعتبر أن من واجبها ضمها، فهي العالم بأسره لأن الإرادة السماوية أرادت ذلك ولأنها تجسد نموذج العالم الأتي حسب المخططات الإلهية، فالقدر حملها مهمة الإملاء على الأمم والشعوب لقانون واحد ما هو إلا قانونها.
(١) الثقافة والإمبريالية - ادوارد سعيد - تعريب كمال أبو ديب ص ٣٤٥