يقول الدكتور سعيد رمضان البوطي في كتابه فقه السيرة:
لقد اختار الله عز وجل لنبيه هذه النشأة لحكمٍ باهرةٍ، لعل من أهمها أن لا يكون للمبطلين سبيل إلى إدخال الريب القلوب، أو إيهام للناس بأن محمد صلى الله عليه وسلم إنما وضع لبان دعوته ورسالته التي نادى بها منذ صباه، بإرشادٍ وتوجيهٍ من أبيه وجده، ولم لا؟ وإنَّ جده عبد المطلب كان صدراً في قومه، فلقد كانت إليه الرفادة (١) والسقاية.
ومن الطبيعي أن يُربي الجد حفيده أو الأب ابنه على ما يحفظ لديه هذا الميراث.
لقد شاءت حكمة الله - عز وجل - أن لا يكون للمبطلين من سبيل إلى مثل هذه الريبة، فنشأ رسوله بعيداً عن تربية أبيه وأمه وجده، وحتى فترة طفولته الأولى، فقد أرادت حكمة الله عز وجل أن يقضيها في بادية بني سعد بعيداً عن أسرته كلها، ولما توفي جده وانتقل إلى كفالة عمه أبي طالب الذي امتدت حياته إلى ما قبل الهجرة بثلاث سنوات كان من تتمة هذه الحكمة أن لا يُسلم عمه. حتى لا يُتوهم أن لعمه مدخلاً في دعوته، وأن المسألة مسألة قبيلةٍ وأسرةٍ وزعامةٍ ومنصب.
وهكذا أرادت حكمة الله أن ينشأ رسوله يتيماً، تتولاه عناية الله وحدها، بعيداً عن الذراع التي تمعن في تدليله، والمال الذي يزيد في تنعيمه، حتى لا تميل به نفسه إلى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثر بما حوله من معنى الصدارة والزعامة، فتلتبس على الناس قداسة النبوة بجاه الدنيا، وحتى لا يحسبوه يصطنع الأول ابتغاء الوصول إلى الثاني.
* * *
(١) الرفادة: شيء كانت قريش تترافد به في الجاهلية، أي: تتعاون به، فيخرج كل إنسان بقدر طاقته فيجمعون مالاً عظيماً، فيشترون به طعاماً وزبيباً ونبيذاً، ويطعمون الناس ويسقونهم أيام موسم الحج حتى ينقضي.