ثم جاءت المحاضرات الأربع اللاحقة تنصبُّ على الشروط التي يجب أن تتوافر فيها سيرة الهادي القدوة. فالأولى في شرط التاريخية، والثانية في شرط الكمال، والثالثة في شرط الشمول، والرابعة في شرط العملية.
* * *
(٣)
شرط التاريخية
وها هو ذا يتحدث عن التاريخية في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم:
لقد شهدت الدنيا أصدق شهادة، ثم ازداد ذلك ثبوتاً على الأيام، بأن المسلمين لم يقتصروا على حفظ سيرته صلى الله عليه وسلم بل توسعوا في ذلك إلى ما يتعلق بها من كل النواحي، فصانوا هذه الأمانة القدسية فلم تلمسها يد الضياع، ولم تعبث بها عوامل الدهر، إلى درجة أن العالم كله يقف من ذلك موقف العجب والاستغراب. والذين وقفوا حياتهم منذ العصر النبوي على حفظ أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ورواية أحاديثه، وكل ما يتعلق بحياته، أدوْها إلى من ضبطوها بعدهم، وكتبوها وصاروا يسمون (رواة الحديث) أو (المحدثين) و (أصحاب السير) وهم طبقات متسلسلة من (الصحابة) و (التابعين) و (تابعي التابعين).
وقد بلغ عدد الصحابة - رضي الله عنهم - في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم الذين حجوا معه حجة الوداع [حوالي] مائة ألف، ومن هؤلاء [حوالي] عشرة آلاف صحابي مذكورة أسماؤهم وأحوالهم في كتب التاريخ التي أفردت لتدوين أحوالهم خاصة، لأن كل واحد منهم حفظ شيئاً من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتصرفاته وهديه وسيرته.
ثم جال المؤلف جولات موفقة في عرض طبقات المشتغلين بنقل السنة النبوية وتعليمها، متحدثاً خلال ذلك عن تحري الصحابة والأئمة العدول صدق النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتحدثاً عن قوة ذاكرة العرب خاصة، ثم المشتغلين بالسنة بشكل عام، وكيف أنهم كانوا يجمعون مع الحفظ الكتابة لزيادة التوثيق، وإنه مع هذا وهذا وجدت العلوم التي تُمحِّص