قال الأستاذ البوطي: روى ابن هشام أن النبي عليه الصلاة والسلام لم تمض له سوى مدة قليلة في المدينة حتى اجتمع له إسلام عامة أهل المدينة من العرب، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، عدا أفراداً من قبيلة الأوس. فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهو وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم.
وقد ذكر ابن إسحاق هذا الكتاب بدون إسناد. وذكره ابن خيثمة فأسنده: حدثنا أحمد ابن جناب أبو الوليد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله عليه السلام كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، فذكر نحو ما ذكره ابن إسحاق، وذكره الإمام أحمد في مسنده فرواه عن سريج قال حدثنا عباد عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار ... إلخ.
وقال الشيخ الغزالي في معرض كلامه عن أهم أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مقدمه المدينة: أما عن صلة الأمة بالأجانب عنها، الذين لا يدينون بدينها، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد سن في ذلك قوانين السماح والتجاوز التي لم تُعهد في عالم مليء بالتعصب والتغالي، والذي يظن أن الإسلام دين لا يقبل جوار دين آخر، وأن المسلمين قوم لا يستريحون إلا إذا انفردوا في العالم بالبقاء والتسلط، هو رجل مخطئ بل متحامل جرئ.
أقول: هذه الوثيقة التي ذكرها الأستاذان الكريمان لم تكن تنظم الحياة بين المسلمين وغيرهم فحسب، بل كانت كذلك تنظم الحياة بين المسلمين أنفسهم، وهذه الحادثة بالذات تعتبر أهم معلم يجب أن تضعه الحركة الإسلامية نصب عينيها، بل هذه الوثيقة تعتبر من أعظم السوابق الدستورية في تاريخ البشرية، ففي مراحل متأخرة بدأت البشرية تفكر في كتابة الدساتير الناظمة لحياة الأمم في أطرها الكبرى، فأن نرى ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى لإقامة الدولة فتلك من معجزات الإسلام، ولقد هل ناس حاربوا