قالت: فوالله ما علمنا حُزناً قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفاً أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرفه منه. وقالت: وسار النجاشي وبينهما عرضُ النيل. قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجلٌ يخرج حتى يحضر القوم ثم يأتينا بالخبر. قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا. قلت: وكان من أحدث القوم سناً، قالت: فنفخوا له قرية فجعلوها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزلٍ حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.
* * *
[دروس من الهجرة إلى الحبشة]
١ - هناك ناس يعتبرون مجرد التفكير في أمن الدعوة ورجالها ونسائها علامة ضعف، ويعتبرون البحث عن الأمن والأمان جريمة، وهذا تفكير ناس قطع الله قلوبهم عن أن تستشعر حاجات الإنسان، نعم لا يصح أن يكون البحث عن الأمن والأمان على حساب الدعوة إلا في الحدود التي رخص فيها الإسلام، والرخصة في محلها طيبة، فهذا عمار بن ياسر قال كلمة الكفر تحت التعذيب، وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجروا إلى الحبشة بحثاً عن الأمن والأمان، والعبرة في النهاية لإذن القيادة الراشدة ولحسن تقديرها.
٢ - لقد هاجر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قطرٍ كافر فيه عدالة وحرية يستطيعون من خلالها أن يأمنوا وأن يقيموا شعائر الإسلام، وهذا يفتح أمامنا آفاقاً واسعة في العمل والحركة، فهناك بلدان في العالم تسمح للمسلم بأن يقيم شعائره الدينية وتعامله كما تعامل أبناءها في الحقوق والواجبات، مثل هذه البلدان تصلح للتفكير فيها إذا ما اضطهد المسلم في بلده بل تصلح للإقامة فيها، ولا حرج إذا ما ضمن المسلم إمكانية تربية أسرته بل قال فقهاء الشافعية: لو أن مسلماً استطاع أن يظهر شعائر الإسلام في دار كفر، فالأولى له البقاء لأنه بذلك تصبح داره دار إسلام في أرض كفرن والمسألة تخضع في النهاية للموازنات بين المصالح