ظل يذكره إلى قبيل وفاته، كانت امتحاناً ثقيل الوطأة محض السرائر ومزق النقاب عن مخبوئها، فامتاز النفاق عن الإيمان، بل تميزت مراتب الإيمان نفسه فعرف الذين ركلوا الدنيا بنعالهم فلم يعرجوا على مطمع من مطامعها والذين مالوا إليها بعض الميل فنشأ عن أطماعهم التافهة ما ينشأ عن الشرر المستصغر من حرائق مروعة.
بدأت المعركة بانسحاب ابن أبي، وهو عمل ينطوي على استهانة بمستقبل الإسلام وغدر به في أحرج الظروف، وتلك أبرز خسائس النفاق.
والدعوات - إبان امتدادها وانتصارها - تغري الكثير بالانضواء تحت لوائها، فيختلط المخلص بالمغرض، والأصيل بالدخيل. وهذا الاختلاط مضر أكبر الضرر بسير الرسالات الكبيرة وإنتاجها.
ومن مصلحتها الأولى أن تصاب برجات عنيفة تعزل الخبث عنها، وقد اقتضت حكمة الله أن يقع هذا التمحيص في أحد.
ولئن أفادت وقعة "بدر" في خذل الكافرين، إن وقعة "أحد" أفادت مثلها في فضح المنافقين، ورب ضارة نافعة، وربما صحت الأجسام بالعلل.
ولعل ما ترتب على عصيان الأوامر في هذه الموقعة، درس عميق يتعلم منه المسلمون قيمة الطاعة، فالجماعة التي لا يحكمها أمر واحد، أو التي تغلب على أفرادها وطوائفها النزعات الفردية النافرة لا تنجح في صدام، بل لا تشرف نفسها في حرب أو سلام.
والأمم كلها، مؤمنها وكافرها، تعرف هذه الحقيقة، ولذلك قامت الجندية على الطاعة التامة، وعندما تشتبك أمة في حرب، تجعل أحزابها جبهة واحدة وأهواءها رغبة واحدة، وتخمد كل تمرد أو شذوذ ينجم في صفوفها.
ولذلك لما دهش المسلمون للكارثة التي قلبت عليهم الأمور، بيَّن لهم أنهم هم مصدرها: فما أخلفهم موعداً، ولا ظلمهم حقاً:
(أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن